الخطب > الرُّوح والمادَّة قبل رمضان
الرُّوح والمادَّة قبل رمضان

خطبة الجمعة: الرُّوح والمادَّة قبل رمضان.
15 / شعبان / 1423 هـ ، 21 / 10 / 2002 م.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله، الحمد لله ثمَّ الحمد لله، الحمد لله نحمده، نستعين به نستهديه نسترشده، نتوب إليه نتوكَّل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، {مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا*} ، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، معزُّ المؤمنين وناصرهم، ومخزِ الملحدين وقاهرهم، {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ، وأشهد أنَّ سيِّدنا وحبيبنا وقائدنا وقدوتنا محمَّداً عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله، خير نبيٍّ اجتباه، وهدىً ورحمةً للعالمين أرسله:
بلغ العُـلا بكمالـه كشف الدُّجى بجمالـه
حسُنت جميع خصالـه صلُّـوا عليـه وآلـه
اللَّهمَّ صلِّ على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه، وارضَ عن خلفائه الأربعة الرَّاشدين أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعليَّ، وعن بقيَّة العشرة المبشَّرين بالجنَّة، وعن السِّبطين الأكرمين أبي محمَّدٍ الحسن، وأبي عبد الله الحسين، وعن أمِّهما فاطمة الزَّهرا، وجدَّتهما خديجة الكبرى، وعن عائشة أمِّ المؤمنين، وعن جميع الآل والصَّحابة، والأهل والأزواج والقرابة، والتَّابعين، وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ *} .
أمَّا بعد:
أيُّها الأخوة المؤمنون:
مابين الحياة المادِّيَّة والحياة الرُّوحيَّة يتقلَّب البشر؛ فتارةً يهوون إلى دركاتٍ منحطَّةٍ من شهوات المادَّة وملاذِّها، ويغفلون عن إشباع حاجات الرُّوح ومتطلَّباتها…
وتارةً يتيقَّظون إلى أنَّ ثمَّة روحاً تستوجب منهم عنايةً فائقة أكثر من العناية الَّتي يستوجبها الجسد… فيغذونها ويعنون بها.
غير أنَّهم لا يطول حالهم هكذا، إذ إنَّ المادَّة أشدُّ إغراءً وأعظم سلطاناً على هذا الإنسان الضَّعيف الَّذي قويت نفسه الشَّهوانيَّة فاستطاعت أنْ تنزل به إلى دركات المادِّيَّة الحيوانيَّة وتنسيه تلك الرُّوحانيَّة الملائكيَّة…
نعم الإنسان مركُّبٌ من جوهرين، جوهر نفيس، وآخر خسيس، فلمَّا اجتمع الجوهران معاً كان مجموعها نفيساً يدعى (الإنسان).
ركِّب الإنسان من جسد، والجسد كما هو موجودٌ في الإنسان موجودٌ في سائر البهائم، فالإنسان من حيث الجسد يندرج ضمن الحيوانات، يندرج ضمن الدَّواب… والله تعالى قد أسماه دابَّة إذ قال: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} …
هذا الجسد لم يكن له وزنٌ قبل أن تحلَّ الرُّوح فيه, خلق الله تعالى هذا الجسد من تراب، صار التُّراب طيناً لازباً، ثمَّ صار الطِّين اللَّازب حمأً مسنوناً، ثمَّ صار الحمأ المسنون صلصالاً، وليس في كلِّ هذا قيمةٌ تذكر…
حتَّى تمَّت أيامٌ معلوماتٌ، وساعاتٌ معدوداتٌ شاءها ربُّ العزَّة سبحانه… عندها جاء ذاك الجوهر الثَّاني، الجوهر النَّفيس الَّذي سيرفع من قيمة هذا الجوهر الخسيس.
نفخ الله الرُّوح في آدم، ودخلت الرُّوح جسد آدم، دخلت الرُّوح من رأسه، فبدأت الحياة تسري في أوصاله جزءً جزءً، وبدأت أجهزة جسده تعمل جهازاً جهازاً، وخلاياه تنبض بالحياة خليَّةً خليَّةً، وأنسجته تشبع بالحيويَّة والحركة نسيجاً نسيجاً…
دخلت الرُّوح الرَّأس، فتحت العينان ونظر آدم إلى ثمار الجنَّة، دخلت الرُّوح الأنف عطس آدم، دخلت الرُّوح إلى الجذع فقفز آدم يريد أنْ يأكل من ثمار الجنَّة، دخلت الرُّوح القدمين فصار آدم حيَّاً، قادراً على الحركة قادراً على القيام بوظائف الأحياء…
فصار هذا المركب بمجموعه إنساناً، ولكن الرُّوح هي السِّرُّ الَّذي أودعه ربُّنا سبحانه في هذا الجسد؛ ليجعل للجسد قيمةً عظمى.
ثمَّ خرجت الرُّوح من الجسد فماذا حلَّ بالجسد؟
بقيت له بقيَّةً من الكرامة ينبغي أن نحفظها, نعم نغسله، نعم نكفِّنه، نعم نصلِّي عليه، نعم ندفنه… كلُّ هذا مطلوب ولكن إكراماً للرُّوح الَّتي حلت فيه يوماً ما, لا إكراماً لذات الجسد لأنَّ ذات الجسد ستبلى، ولأنَّ أَرَضَةَ الأرض لن تبقي منه بقيَّة، إنَّما الرُّوح الَّتي حلَّت في هذا الجسد تستحقُّ منَّا إكراماً بعد أن خرجت، لذلك يعتنى بالجسد بعد أن تفارقه روحه.
أمَّا الجسد فإنَّه يشبه أجساد البهائم؛ وإن كان أحسن تقويماً منها: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ *} ولكن لنتوقَّف قليلاً عند هذه الآية:
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ *} .
لِمَ قيل إنَّ الإنسان خلق في ((أحسن تقويم))؟ أليس الله قادراً على أن يخلقه في تقويم أحسن من هذا؟ والله تعالى ليس لحدود إحسانه حدود… وليس عنده ((أحسنُ)) ليس أحسن منه… فكيف قال في ((أحسن تقويم))؟ أي في أحسن تقويمٍ موجودٍ لا في أحسن تقويمٍ ممكن… فالإنسان أحسن الموجودات المخلوقات؛ فالله تعالى خلق آدم على صورته…
خلق آدم على صورته أي أعطاه جمالاً من جماله، والله جميل يحب الجمال، فجعله أجمل من غيره؛ لذلك قال عليه الصَّلاة والسَّلام: [إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته].
ثمَّ جعل الإنسان يمشي على قدمين… بينما سائر البهائم يمشي على أربعة قوائم، ثمَّ جعل وجه الإنسان أجمل الوجوه هيئة، وجعل نطق الإنسان مترجماً عمَّا في جنانه…
كلُّ هذا داخلٌ في التقويم الجسديِّ الحسن، ولكن في الآية أبعادٌ عميقةٌ، أكبر بكثير من مجرَّد التَّقويم الجسديِّ الحسن…
انظر إلى ترتيب الآية الَّتي بعدها: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ *} ما هي الصِّلة بين الشَّكل الجميل ونار جهنم؟ ما هي الصِّلة بين الشَّكل الجميل والخزي والعذاب؟ لا صلة…
لِمَ يقول: لقد خلقناه في ((أحسن تقويمٍ))؛ ثمَّ يقول: رددناه ((أسفل سافلين))؟
إنَّ ((أحسن تقويمٍ)) هنا شيءٌ آخر غير الشَّكل الجسديُّ إنَّه الفطرة المؤمنة الَّتي ولد الإنسان عليها، إنَّه الاستقامة الَّتي فطر الله تعالى الإنسان عليها؛ فالفطرة، الصِّبغة، الجبلَّة… الَّتي أودعها الله تعالى في جوهر هذا الإنسان، في روحه أحسن شيءٍ وضعه الله تعالى في مخلوق: [كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه] {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ *}.
بعد أن خلقه الله على الفطرة انحرف هو عن الإيمان إلى الكفر، وعن الطَّاعة إلى المعصية، واستبدل المعرفة بالجهل، والصَّحوة بالغفلة… فردَّه الله ((أسفل سافلين)) ثمرةً لانحرافه عن ((أحسن تقويم)) {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ *}.
فالشَّكل الجسديُّ في الإنسان ليس أجملَ شيءٍ فيه، وليس أحسنَ شيءٍ فيه، فأحسنُ من الجسد الرُّوح، والرُّوح هي الَّتي جمَّلت الجسد، وهي الَّتي رفعت قدر الجسد، وإلَّا فإنَّ الجسد بلا روحٍ (جثَّة) ولا يقال: (جثَّةٌ) للجسد إلَّا بعد أنْ يموت.
وانظر إلى هذا الإنسان وما فيه من عجائب! إنسان قويٌّ قديرٌ عزيزٌ… مادامت الرُّوح تسكن جسده، حتَّى إذا فارقت الرُّوح الجسد حلَّ موضع العزَّة ذلٌّ! وموضع القوَّة ضعفٌ! وموضع الغنى فقرٌ!!
انظر إلى هذا الجسد العظيم الَّذي تخرج الرُّوح منه؛ فيأتي أشخاصٌ عديدون، وربَّما رجالٌ أشدَّاء كثيرون… ينوءون بحمله حتَّى إذا حملوه شعروا بثقله وشدَّته، ربَّما يحمله عشرة أشخاصٍ ويرونه ثقيلاً! هذا الجسد ذاته كان محمولاً على قدمين صغيرتين يوم كانت الرُّوح داخله!! حتَّى إذا خرجت الرُّوح منه صار الرِّجال الأشدَّاء يعجزون عن حمله! إنَّها سرٌّ لطيفٌ عجيبٌ جعله الله تعالى سرَّ الإنسانيَّة.
فإذا شغل الإنسانَ جسدُه عن روحه إذاً شغلته حيوانيَّته؛ لأنَّ الجسد الَّذي فيه يشبه الأجساد الَّتي عند البهائم، وإنْ كان أحسن منها هيئةً.
وأمَّا الرُّوح الَّتي في هذا الإنسان فإنَّها تشبه أرواحاً ملائكيَّة؛ فالإنسان أخذ عالم روحه من عالم الملائكة، وعالم جسده من عالم البهائم، فصار مركَّبا لا هو ملاكٌ ولا هو بهيمةٌ، ولكنَّه شيءٌ مختلفٌ متميِّزٌ.
ولكنْ هذا المركَّب فيه جوهران جوهرٌ عليٌّ وجوهرٌ دنيٌّ، فإنْ شاء أنْ يحافظ على التَّوازن بين الجوهرين فعليه أن يحكم العليَّ في الدَّنيَّ، وعليه أنْ يجعل الجوهر الأسمى هو الأصل والمعوَّل عليه عند الخلاف، والجوهر الأدنى يجعله محكوماً بمشيئة الجوهر الأعلى.
أنْ يكون الإنسان روحانيَّاً مطلقاً هذا غير مطلوب، وأنْ يكون مادِّياً مطلقاً هذا غير مقبول، وأن يكون متوازناً بينهما هذا هو المطلوب والمقبول؛ ولكنْ لا يتحقق التَّوازن بين شريكين إلا بحاكميَّة أحدهما على الآخر…
أنْ يكون مادِّياً مطلقاً أي: أنْ يكون بهيمةً! والله لا يرضى له أن يكون بهيمة وقد شرَّفه بأنْ جعله إنساناً.
وأنْ يكون روحانيَّاً مطلقاً أي: أنْ يكون ملاكاً! والله ما طلب منه أنْ يكون ملاكاً عندما خلقه أنساناً.
فلا بدَّ إذاً من التَّوازن، والتَّوازن المطلق بين شريكين أمرٌ يستحيلٌ، فلا بدَّ من وجود نسبةٍ زائدةٍ لأحدهما على الآخر, إذا تشارك أشخاصٌ عديدون في تجارةٍ، فإنَّهم جميعاً قد يشتركون في أنصبةٍ ماليَّةٍ متساويةٍ، ولكنَّهم لنْ يكونوا جميعاً مديرين للشَّركة، ينبغي أنْ يكون لها مديرٌ واحدٌ، ينبغي أنْ ينتخبوا منهم، ينبغي أنْ يصطفوا منهم رجلاً واحداً، شريكاً واحداً… ليكون أمره هو النَّافذ عندما تختلف الأوامر، وليكون رأيه هو السَّاري عندما تتضارب الآراء، وهكذا الشَّراكة بين الجسد والرُّوح لا بدَّ فيها من رجحان أحدهما، فهناك راجح ومرجوح.
فإنْ حقَّقت التَّوازن بين الجسد والرُّوح ورجَّحت الجسد على الرُّوح كنت إنساناً أقرب إلى الحيوانيَّة، وإن وازنت بينهما وقدمت الرُّوح على الجسد كنت إنساناً أقرب إلى الملكيَّة وهذا هو المطلوب منك.
وهذا هو المطلوب في الحالة العامَّة والخاصَّة.
أمَّا في الحالة العامَّة فعليك أنْ تشتغل على تغذية مادتك، على إشباع حاجات جسدك… وإنْ كنت من أهل الهمم فلا تشبع حاجات الجسد إنَّما حقِّق الحدَّ الأدنى، وما زاد عندك من طاقة فاصرفه لما هو أسمى…
أعط الجسد أقلَّ ما يكفيه، ثمَّ أعط الرُّوح كلَّما يزيد عندك من طاقة، وكلُّ ما يزيد عندك من توجِّهٍ ورغبةٍ، لأنَّ أحدهما سيستهلك نصيب الآخر، وبقدر ما يقوى جسدك تضعف روحك.
جرِّب أنْ تعبد الله تعالى وأنت شبعان، وأنْ تعبده وأنت خاوي البطن، وسوف ترى فارقاً بيِّنا بين العبادة على الجوع والعبادة على الشِّبع, العبادة على الشِّبع تعينك على الخشوع، تعينك على الحضور تعينك على الثَّبات وطوال الهمَّة.
وبمجرَّد أن تشبع جسدك طعاماً أو لذَّةً أو شهوةً ستبدأ روحك بالأسر، ستبدأ روحك بدخول سجن لا يخرجك منه إلَّا قسوةٌ على الجسد، فبينهما تعاكس، بقدر ما يقوى أحدهما يضعف الآخر.
وما أشبههما بهذا الجهاز الكهربائيِّ الَّذي يدعى (المصعد)، تستدعي المصعد لينزل فيصعدك، فإذا نزل فهناك ثقلٌ على الجهة الأخرى فيرتفع، وإذا ارتفع فسوف ينزل ذاك الثِّقل، يرتفع أحدهما بقدر ما ينزل الآخر، وينزل بقدر ما يرتفع، وهكذا بين الجسد والرُّوح علاقةٌ دقيقةٌ، إنَّهما بمجموعها ثابتان ولكنْ يزيد أحدهما بقدر ما ينقص الآخر، وينقص بقدر ما يزيد، فهما يشبهان طاقةً ميكانيكيَّةً ثابتةً، قد تكون طاقةً حركيَّةً، وقد تكون طاقةً كامنةً، وبقدر ما يزيد واحدٌ من النَّوعين ينقص الآخر… ولكنَّ المجموع ثابت.
وهكذا طاقة الجسد وطاقة الرُّوح مجموعهما ثابتٌ، ولكنَّ توزيع الطَّاقتين على الموضعين يختلف.
إعطاء الجسد حاجاته أمرٌ يفرضه الإسلام، ومن قسا على جسده قسوةً زائدةً جاوز بها حدَّ الاعتدال فإنَّ الله يحاسبه؛ لأنَّ الله هو الَّذي أعطاه الجوهرين، فلا يقال: عليه أنْ يحارب الجسد ليسمو بالرُّوح… لا، بل عليه أنْ ينظِّم العلاقة بينهما.
ها هو ذا سيِّدنا رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام يرى رجلاً واقفاً في الشَّمس لا يتحرَّك، لا يجاوز موضعه، قال: [من هذا؟ قالوا: يا رسول الله هذا أبو إسرائيل، نذر أنْ يصوم فلا يأكل، وأنْ يصمت فلا يتكلَّم، وأنْ يقف في الشَّمس فلا يستظلَّ] نذر أموراً بعضها طاعاتٍ، وبعضها لا أساس له في الطَّاعات الإسلاميَّة [هذا أبو إسرائيل، نذر أنْ يصوم فلا يفطر، وأنْ يقوم فلا يقعد، وأنْ يقف في الشَّمس فلا يستظلَّ، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: مروه فليقعد وليستظلَّ وليتمَّ صومه]… فالقيام لن ينفعه، سيؤذيه من غير ما نتيجةٍ نافعة، وتعريض جسده للشَّمس هكذا قسوةً على جسده لن ينفعه كذلك، فليترك هذه القسوة الَّتي لا تنفع (القسوة اللَّا موجهة)، وأمَّا الصِّيام فأنَّه قسوةٌ معتدلةٌ على الجسد، تؤدِّي بالضَّرورة إلى سموِّ الرُّوح، فلا بأس إنْ هو أتمَّ صومه… [مروه فليقعد وليستظلَّ وليتمَّ صومه].
ها هو ذا سيِّدنا رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام في موقفٍ آخرٍ يدخل المسجد فيرى بين السَّاريتين حبلاً ممدوداً، قال: [لمن هذا الحبل؟ ما هذا الحبل؟ قالوا: يا رسول الله هذا لفلان، يقف يصلي في اللَّيل عنده، حتَّى إذا أصابه النُّعاس وهمَّ بأنْ ينام وهمَّ بأنْ يقع ارتطم بهذا الحبل فتنبه فتابع صلاته، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: ليصلِّ أحدكم جهده، فإذا نعس فليرقد؛ فإنِّه لا يدري ربَّما ذهب يستغفر ربَّه فيسبُّ نفسه] لا يبالغ في القسوة على جسده بدعوى أنَّه يسمو بروحه، بل لا بدَّ من أنْ يعطي جسده على الأقلِّ الحدَّ الأدنى من مطالبه.
لابدَّ من أنْ يستعين الجسد بالرَّاحة على الطَّاعة، والجسد الَّذي يطول تعبه ولا يرتاح أبداً لن يقوى على مداومة الطَّاعة، ففي ساعةٍ ما ستنتهي كلُّ قدراته، وسينطفئ كما ينطفئ السِّراج عندما يفرغ الزَّيت الَّذي فيه، فالجسد قد يكون خادماً للرُّوح فلا ينبغي أنْ يتخذ عدوَّاً لها.
إذاً في النَّاس من جعل الجسد عدواً للرُّوح، فقسا عليه وآذاه! وفي النَّاس من جعل الجسد سيِّداً للرُّوح! فخوَّله صلاحيَّاتٍ فائقةٍ، وكلا المذهبين مخطئٌ.
اجعل الجسد خادماً اعتني بخادمك، ولكنْ لا تعطه أكثر من صلاحيَّات خادم، جسدك خادمٌ مخلصٌ لروحك إنْ أحسنت توجيهه، وإنْ أحسنت الاعتناء به.
هاهو ذا رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام يصله خبر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، تشكوه زوجته… إنَّها تشكوه لا لأنَّه يقضي اللَّيالي خارج البيت في سهرٍ وسمرٍ… ولا لأنَّه يبالغ في الأخذ من لذائد الحياة، ولا لأنَّه يرتكب المعاصي، ولا لأنَّه يشرب الخمور لا سمح الله، أو يصاحب النِّساء الأجنبيَّات… إنَّها تشكوه لسببٍ يختلف اختلافاً جذريَّاً، لقد كانت تشكوه لأنَّه كثير الصَّلاة! كثير الصِّيام! وأين المشكلة؟! إنَّ زوجته لها حقٌّ عليه، ولكنْ عبادته تمنعه من إعطاء جسده وزوجته وسائر النَّاس حقوقهم، ففي ليله دائم القيام، فهو هاجر زوجته، وفي نهاره دائم الصِّيام، فهو ناءٍ عنها أيضاً… شكت ذلك إلى رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام، استدعاه لا ليقول له فعلك حسن (لقد قسوت على جسدك بما فيه الكفاية)، ولكنْ ليعاتبه ويؤنِّبه لأنَّه بالغ في القسوة على جسده بدعوى أنَّه يسمو بروحه… قال له: [إنَّ لنفسك عليك حقَّاً، وإنَّ لجسدك عليك حقَّاً، وإنَّ لأهلك عليك حقَّاً، فأعط كلَّ ذي حقٍّ حقَّه] وعلَّمه حدَّاً معتدلا من العبادة، ووضع له حدَّاً أدنى وحدَّاً أقصى، لا يجاوز أحدهما حدَّ الاعتدال…
فالتَّوسط فيه مدىً يمكن أنْ يذهب المرء إلى أدناه أو إلى أقصاه، فإذا جاوز أدنى التَّوسط فقد فرَّط، وإذا جاوز أقصى التَّوسط فقد أفرط, فالتَّوسط إذاً قد يكون في أحيانٍ خيطاً رفيعاً وفي أحيانٍ أخرى ثمَّة احتمالاتٌ كلُّها داخلٌ ضمن التَّوسط.
[صم ثلاثة أيامٍ من كلِّ شهر، قال: أطيق أفضل من ذلك، قال: صم يومي الاثنين والخميس، قال: أطيق أفضل من ذلك، قال: صم يوماً وأفطر يوماً، قال: أطيق أفضل من ذلك، قال: لا أفضل من ذلك]… لقد وصلنا إلى أقصى حدود التَّوسط، يا عبد الله إنْ نحن جاوزنا هذا الحدَّ فلسوف نفرط، وإنْ نحن أفرطنا فإنَّنا نظلم، والظَّالم يرتكب إثماً عظيماً يعرِّضه للمؤاخذة الشَّديدة يوم القيامة، إنَّه يظلم جوهراً من جوهرين، إنَّه يظلم جسده.
صلَّى الله عليك يا سيدي يا معلِّم الخلائق الحكمة يا من حَكَمْتَ فحَكُمْتَ…
ها هو ذا عبد الله بن عمرو يشيخ، يتقدَّم به العمر فيقول: [تمنَّيت أنَّي كنت أخذت برخصة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم], ما عاد يقوى على أنْ يصوم يوماً ويفطر يوماً، وليس بقادرٍ أيضاً على أنْ يتراجع…
لقد أخذ الوصيَّة شخصيَّةً من رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وكان الواحد منهم إذا سمع الكلام العامَّ ظنَّه موجَّهاً إليه شخصيَّاً، بشكلٍ خاصٍّ، وعمل به وكأنَّه وحده السَّامع، وكأنَّه وحده المقصود، فكيف لو وجِّه الكلام إليه بشكل خاصٍّ حقيقةً؟ كيف إذا كان هو المقصود حقَّاً؟
كان الواحد منهم إذا جلس في ألوفٍ النَّاس، وسمع كلاماً يسمعونه كما يسمعه، كان يرى أنَّه وحده المقصود، وأنَّه وحده المطالب بالتَّطبيق، وكان يرى أنَّه إنْ قصَّر في التزام هذا الكلام فهو إذاً خائنٌ لأمانة الكلمة…
كان لا يرى غيره مقصوداً، ولا يرى غيره مقصراً، فكيف إذا كان الكلام بالفعل موجهاً إليه؟ ولم يكن أحد معه يسمع؟ وكان هو المقصود به دون غيره؟ ليس له أنْ يتراجع إذاً، وليس له أنْ ينكص بعد أنْ شرع في المسير، ليس له أن ينكث، [تمنيت أنَّي كنت أخذت برخصة رسول الله].
لقد وضع له النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام حدَّاً أدنى من التَّوسط ولكنَّه أصرَّ على الازدياد… فلم يستطع المتابعة بعد.
أخوتي في مقابل عبد الله بن عمرو ثمَّة أمثلةٌ نرى منها قسوةً على الجسد معتدلةً أثمرت سمواً في الرُّوح فائقاً، هذا سيٌّدنا حارثة رضوان الله عليه يراه النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام يوماً ويتفقَّد أحواله كما يفعل مع أصحابه عموماً، يقول: [كيف أصبحت يا حارثة؟ يقول: يا رسول الله أصبحت مؤمناً حقَّاً]… (أصبحت مؤمناً حقَّاً)! كلمةٌ ثقيلة الوزن، لو قالها غير حارثة لقيل: إنَّه يتشبَّع بما لم يُعط، ولكنَّ حارثة يعلم ماذا يقول… قال: [يا حارثة إنَّ لكلِّ قولٍ حقيقةٌ فما حقيقة قولك؟ قال: يا رسول الله أسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، حتَّى كأنِّي بعرش ربِّي بارزاً، وكأنِّي أنظر إلى أهل الجنَّة وهم يتنعَّمون، وإلى أهل النَّار وهم يتضاغون ويُعذبون].
نعم لقد قسا على جسده قسوةً معتدلةً؛ فشفَّت روحه حتَّى صارت ترى العالم الآخِر، فانتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، ولم يبقَ إلَّا أنْ يدخل الجنَّة فيعلمها حقَّ اليقين، لقد صار يرى الجنَّة والنَّار، وكأنَّه يرى العرش أمامه، لأنَّ روحه سمت، ولأنَّ روحه شفَّت، فلذلك صار ملائكيَّاً أكثر من أنْ يكون بهائميَّاً، غلبت صفة الرُّوحانيَّة على صفة المادِّيَّة عنده.
فإذا أردنا أنْ نحكم على النِّسبة الكبرى من مسلمي هذه الأيَّام -وخصوصاً شبابهم- فمن أي النَّوعين هم؟ هل هم ممَّن توازنوا ولكنْ إلى جهة الماديَّة؟ أمْ توازنوا إلى جهة الرُّوحيَّة؟ أم إنَّهم أفرطوا في الرُّوحيَّة؟ أرى أنَّ هذه الأحوال الثَّلاثة قلَّما توجد، ولو أفرطوا في الرُّوحيَّة لكان إفراطهم إفراطاً خيِّراً، ولكنَّ الحالة الرَّابعة هي الَّتي عمَّت وغلبت لقد أفرطوا في الماديَّة ونسوا أنَّهم بالأرواح صاروا بشراً:
يا خادمَ الجسمِ كمْ تشقى لخدمتِـهِ * أتطلبُ الرِّبحَ فيما فيهِ خسرانُ؟!
انهضْ إلى الرُّوحِ فاستكملْ فضائلَها * فأنتَ بالرُّوحِ لا بالجسمِ إنسانُ
في الحالة العامَّة ينبغي أنْ يكون التَّوازن، وفي حالاتٍ خاصَّةٍ ينبغي أنْ تزاد الجرعات الرُّوحيَّة للحفاظ على هذا التَّوازن، فمن هذه الحالات الخاصَّة موسم الحجِّ، وأيَّام العمرة، ومن هذه الحالات الخاصَّة شهر رمضان، ومن هذه الحالات الخاصَّة العشر الأواخر من رمضان… فإنَّها مواسم ينبغي أنْ تُزاد فيها جرعات الرُّوح ليعود التَّوازن إلى ما ينبغي.
أتدرون لماذا؟ لأنَّ العلاقة بين الرُّوح والجسد كما قلت علاقةٌ بين عليٍّ ودنيٍّ، فعندما يتركان لا بدَّ منْ أنْ يغلب الدَّنيُّ، لأنَّ الدَّنيَّ يجبذ إلى الأسفل، والعليُّ قد يعجز عن الرَّفع إلى الأعلى، فالنُّزول أسهل من الصُّعود غالباً.
فإذا كان هذا هو الحال في عموم العام؛ فينبغي إذاً أنْ نقوي العليَّ على الدَّنيِّ، وأنْ نرفع الرُّوح ونقوِّيها، وأنْ نقلِّل من حاجات الجسد ونقهره ضمن حدود الاعتدال أيضاً في بعض المواسم.
ورمضان موسمٌ من هذه المواسم، وها هو ذا رمضان قد وصل عبيره قبل أنْ يصل، ولاح سناه قبل أنْ يبدو، وها هو ذا يُشعرنا بجلاله ومهابته، وهو يقترب شيئاً فشيئاً.
وبقدر ما تكون حواسُّك الرُّوحيَّة حادَّةً ذكيَّةً بقدر ما تشعر بقدومه في زمانٍ أبكر، فها هو ذا سيِّدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يتحسَّس قدوم رمضان قبل أنْ يقدم بشهرٍ على الأقلِّ؛ فيكثر من العبادة في شهر شعبان، فإذا سُئل عن الصِّيام في شعبان لماذا يُكثر منه؟ يقول: [لأنَّه شهرٌ يغفل النَّاس عنه بين رجب ورمضان]…
فهم لا يتنبَّهون إلى رمضان إلَّا بعد أنْ يصل، إلَّا بعد أنْ تدخل اللَّيلة الأولى منه، عندها يتحرَّون الهلال، ترى هل هي ليلة الأوَّل من رمضان؟ أم هي ليلة الثَّلاثين من شعبان؟ قبل ذلك لم يكونوا له متنبِّهين…
قد يتنبَّهون لرمضان، ولكنْ يتنبَّهون إلى رمضان غيرِِ رمضان الَّذي تكلَّم الله عنه، الَّذي قال فيه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} …
إنَّهم يهتمُّون برمضان من قبل قدومه نظافةً في البيت، يهتمُّون لرمضان قبل قدومه أطعمةً متميِّزة، يهتمُّون قبل قدومه موسماً للتَّزاور، وموسماً لأكلٍ وشربٍ ولذائذٍ، يتنبَّهون لرمضان قبل قدومه مواسم للسَّهر واللَّهو والسَّمر، يتنبَّهون لرمضان قبل قدومه عندما يرون الدَّعاوات المتفرِّقة هنا وهناك عن سهراتٍ ومهرجاناتٍ وأطعمة إفطار فاخرةٍ في شهر رمضان…
إذاً أجسادهم تتنبَّه ولكنَّ أرواحهم لا تتنبَّه إلى رمضان حتَّى يقدم، ويا ليتهم يتنبَّهون له عندما يأتي… ولكنَّ كثيرين يظلُّون غافلين عنه حتَّى عندما يأتيهم! ويأتي ثمَّ يمضي وهم في غفلتهم ماكثون!
رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام يمتلك إحساساً روحيَّاً مرهفاً، لذلك يحسُّ برمضان قبل شهرٍ من قدومه، فيصوم في شعبان، ويقول: [هو شهرٌ يغفل النَّاس عنه بين رجب ورمضان].
ماذا أعددت لرمضان وقد صار على الأبواب؟ هل روحك مستعدَّةٌ للسُّموِّ؟ هل جسدك معدٌّ للإهمال؟ أو لنقُل للوضع في الحدود؟ هل أنت مستعدٌّ لصناعة نظامٍ جديد؟ برنامجٍ تمشي عليه في رمضان يغيِّر لك حياتك…؟
فلتدخل إلى أغوارك واسأل نفسك سؤالاً واحداً: هل أنت مستعدٌّ للتَّغيير؟ هل أنت مستعدٌّ لئنْ تكون إنساناً آخر…؟
إنْ لم تكن إنساناً آخر في رمضان فلنْ تكون إنساناً آخر في غيره، وإنْ لم تكن قادراً على أنْ تكون إنساناً آخر على الإطلاق فإنَّ الله تعالى قال فيك: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} …
فإنْ أردت التَّغيير فإنَّ رمضان فرصةٌ منقطعة النَّظير، لن تجد لها مثيلاً، فالتَّغيير في رمضان متيسِّر، الجوُّ الاجتماعيُّ يعينك، العبادات المفروضة تعينك، تصفيد الشَّياطين يعينك، الحالة النَّفسيَّة المتحفِّزة المستعدَّة للتَّغيير تعينك…
فإنْ لم يعِنك ذلك كلَّه على أنْ تغيِّر نفسك فمتى تغيِّرها؟! إنْ لم يكنْ رمضان بكلِّ ما فيه من جلالٍ، وبكلِّ ما فيه من عظمةٍ، وبكلِّ ما فيه من تجليِّاتٍ ونفحاتٍ وبركاتٍ قادراً على أنْ يصنع منك أنساناً جديداً… فمتى تصير إنساناً جديداً؟!
أتراك تقول لنفسك الآن: ((ولماذا أكون إنساناً جديداً، وأنا في أحسن الأحوال؟! وهل ثمَّة حالٌ خيرٌ من حالي الَّتي أنا عليها…؟!))
إذاً أنت راضٍ بنفسك! راضٍ بحالك! راضٍ بوضعك! ومن رضي عن نفسه لم يرض الله عنه، فإنْ شئت أنْ ترضي ربَّك فلا ترضى أنت عن نفسك (حاسبوا أنفسكم قبل أنْ تحاسبوا وزنوها قبل أنْ توزنوا)…
من رضي عن نفسه هنا، فوجئ بها هناك، لأنَّها ستبدو حقيقتها، وسيظهر ما كان مخبوءً فيها يتجاهل المرء وجوده…
غيِّر حياتك، وليكنْ تغييراً جوهريَّاً ولا تقل: ((لا يزال أمامي مهلة))، فالتَّغيير ينبغي أن يبتدئ قبل رمضان…
ولعلَّ الكلام مبكِّرٌ في نظر البعض، ولعلَّ بعضكم يقول: ((من الآن نتكلَّم عن رمضان؟)) نعم، أتدرون لماذا أيُّها الأخوة؟ لأنَّنا إنْ تكلَّمنا في أوَّل رمضان فحسب عن رمضان؛ فسوف يحدث التَّغيير في أوَّله، وما كان مرتبطاً ببداية الشَّيء حدوثه كان مرتبطاً بنهايته عدمه.
إذا حدث التَّغيير في أوَّل رمضان؛ فلا نأمل أنْ يستمرَّ بعد انقضاء هذا الشَّهر، وأمَّا إذا ابتدأ التَّغيير من الآن، من قبل حلول هذا الشَّهر العظيم؛ فإنَّنا نتوقَّع أنْ يستمرَّ بعد انتهاء شهر رمضان… لأنَّنا ابتدأنا من قبله، فلن ننتهي من الصَّلاح والاستقامة بانتهائه.
فابتدئوا من الآن… استعدِّوا لهذا الشَّهر لا استعداداً نفسياً فحسب؛ بل استعداداً عمليَّاً جادَّاً، فلنكن عمليِّين لأنَّ شبابنا يفتقرون إلى العمليَّة، يسمعون الكثير، ويعلمون الكثير الكثير، ولكنَّهم لا يعملون إلَّا بالقليل، ويا ليتهم عملوا بالقليل لأنَّ القليل ينفع إن قبل، ولكن عندما يتحوَّل العمل إلى لا شيء، يتحوَّل هذا الإنسان إلى لاشيء.
عندما تعمل اللَّاشيء فأنت لا شيء، وعندما تعمل شيئاً فأنت شيءٌ يتناسب مع ما عملت.
قيمةُ الإنسانِ ما يحسنُهُ * أكثرَ الإنسانُ منْهُ أوْ أقلّ
قيمة الإنسان ما يحسنه… قيمة الإنسان ما يفعله، ما يصنعه، أكثر الإنسان منه أو أقلّ.
أنت تفعل الأفعال العظيمة؛ إذاً أنت فاعلٌ عظيمٌ، أنت إنسانٌ عظيم، أنت تفعل الأفعال النَّفيسة؛ إذاً أنت جوهرٌ نفيس، أنت تفعل الأفعال الدَّنيئة؛ إذاً أنت دنيء، أنت تفعل اللَّاشيء؛ إذاً أنت لا شيء…
أنت مرتبطٌ بفعلك، اعرف نفسك من خلال فعلك، لا تتعرف على نفسك من خلال أوهامٍ نفسيَّةٍ، فلا تقل: ((أنا أمتلك إمكاناتٍ وقدراتٍ، أنا أمتلك عَظَمَةً باطنيَّةً وجوهراً نفيساً…)) كلُّ ذلك لا ينفعك حتَّى يتحوَّل إلى عمل، حتَّى يتحوَّل إلى سلوك يُرى، يكتبه الملَكُ الَّذي يجلس عن يمينك، فإنْ لم يرَ شيئاً أمامه فلنْ يكتب شيئاً، وسترفع صحائف الأعمال صفراً إلى الله تعالى.
فافعل أمامه ما يكتب، وافعل أمام الله تعالى ما يُرضى، زاوج بين العمل الظَّاهر والإخلاص الباطن، لأنَّ أحدهما لا يغني عن الآخر: [إنَّ الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم] والأعمال براهين القلوب، قلبٌ صالحٌ لا يثمر عملاً… صلاحه لا ينفع.
الأعمال براهين القلوب، فابتدئوا من الآن، ولأبتدئ أنا من الآن، وكلُّنا أيُّها الأخوة نحتاج لئنْ نبتدئ، لأنَّنا جميعاً مقصرِّين…
وأنا أشدُّ النَّاس تقصيراً، وأعظمهم ذنباً وجريرةً، إنَّني أحتاج لئنْ أُصلح أحوالي مع ربِّي، أحتاج لئنْ أُصلح أحوالي مع النَّاس من حولي، أحتاج لئنْ أصلح أحوالي مع نفسي، أحتاج لئنْ أفهم: الحياة كيف تسير، والآخرة كيف ستكون، أحتاج لئنْ يكون منطقي منطقاً صافياً…
أحتاج لئنْ أتجرَّد عن كلِّ العلل النَّفسيَّة الَّتي تمنعني من التَّحوُّل، وتمنعني من العمل الجادِّ الموجب.
عليَّ أنْ أتخلَّى عن الكسل، أتخلَّى عن الخجل، أتخلَّى عن الكبر، أتخلَّى عن الغرور، أتخلَّى عن التَّقليد، أتخلَّى عن النَّظر إلى النَّاس من حولي، أتخلَّى عن وضع الحسابات للبيئة الاجتماعيَّة، وللبيئة الفكريَّة الَّتي تربَّيت فيها…
عليَّ أنْ أكون إنساناً باحثاً عن الحقِّ، فإذا رأيت الحقَّ اتبعته، أمَّا أنْ أرى الحقَّ بعيداً، وأنظر إليه من بعيد، وأدَّعيَ أنَّني بالنَّظر إليه ملكته، وأنَّني بالتَّخيُّل بلغته؛ فإنَّ هذا لن ينفع…
أنت تراه، نعم، وصل إليه بصرك، نعم؛ ولكنَّك ما وصلت إليه، ولا صرت من أهله، حتَّى تصل إليه بجسدك وأعمالك…
رؤيتك للحق، واستشرافك له، واطلاعك على أبعاده… كلُّ ذلك لا يعني أنَّك صرت من أهله، حتَّى تصير في حظيرته، وحتَّى تمشيَ بقدميك إليه…
فهل أنت مستعدٌّ لئنْ تمشي؟ وأنْ تخلِّف من ورائك أهواءك؟ وأنْ تخلِّف من ورائك عاداتك؟ وأنْ تخلِّف من ورائك أموراً ورثتها، منها ما هو صواب، وأكثرها ما هو خطأ؟
هل أنت مستعدٌّ لئنْ تترك كلّ ذلك وراء ظهرك وتذهب إلى الله؟ والله تعالى يأمرك أن تذهب إليه وأنْ تترك كلّ ما وراءك؛ بل يأمرك أنْ تهرب من كلِّ شيءٍ، أنْ تهرب من كلِّ شيء… وتتوجَّه إلى الله وحده، فيقول لك، ولي، ولنا جميعاً: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ *} .
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}… هل أنت مستعدٌّ لئنْ تفرَّ إلى الله؟ أي أنْ تفرَّ من غير الله؟ نعم الفرار إليه يعني الفرار من غيره، فإمَّا هو وإمَّا سواه، ولا يجتمع الله والسِّوى في قلبٍ واحدٍ، فإنْ كان السِّوى يملأ قلبك فالله لن يسكنه.
فرِّغ قلبك نظِّفه، أخرج منه كلَّ الأغيار، حتَّى إذا صار قلبك خالياً، نظيفاً مسطحاً ممهداً، مهيَّأً لاستقبال الحبِّ الإلهيِّ، والعناية الإلهيَّة، عندها يسكن الله في قلبك، ولن يرضى سبحانه الشَّراكة، وهو الذي قال: [أنا أغنى الشُّركاء عن الشِّرك]
فهل أنت مستعدٌّ لئنْ تخلِّف سواه وراء ظهرك؟ وتفرَّ إليه؟ {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ *}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ *} .
فليكن رمضان، وليكنْ ما قبل رمضان من اليوم موسماً للموازنة بين الرُّوح والجسد، موسماً لتحكيم الرُّوح في الجسد، وليكنْ موسماً لتغيير تلك العلاقة المختلَّة الَّتي كانت بين أجسادنا المتسلِّطة المتحكِّمة وأرواحنا المظلومة المهضومة، ولتكنْ علائقنا بدءً من اليوم مضبوطةً بضوابط المنطق الشَّرعيِّ.
فليكنْ الحاكم هو الرُّوح، والمحكوم هو الجسد، ومن فعل ذلك قوي على التَّغيير، وأمَّا من بقي جسده حاكماً… فإنَّ جسده سيمنعه أبداً من أنْ يحدث تغييراً حقيقيَّاً في حياته
نسأل الله تعالى أنْ يجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، أقول هذا القول وأستغفر الله.
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، وأشهد أنْ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، إقراراً بوحدانيَّته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمَّداً عبده ورسوله المشفَّع في المحشر، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما اتصلت عينٌ ينظرٍ ووعت أذنٌ بخبرٍ.
أوصيكم عباد الله –ونفسي– بتقوى الله، وأحثُّكم –وإيَّاي– على طاعته، وأحذِّركم وبالَ عصيانه ومخالفةِ أمره، واعلموا أنَّه لا يضرُّ ولا ينفع ولا يصل ولا يقطع ولا يعطي ولا يمنع ولا يخفض ولا يرفع ولا يفرِّق ولا يجمع إلَّا الله.
واعلموا أنَّ الله أمركم بأمرٍ بدأه بنفسه، وثنَّى بملائكة قدسه وعرشه، فقال تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً*} ، اللَّّهمَّ صلِّ على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلِّم.
اللَّهمَّ أيِّد الإسلام وأعزَّ المسلمين، وأعلِ وانصر كلمة الحقِّ والدِّين، اللَّهمَّ من أراد بالإسلام والمسلمين خيراً فوفِّقه إليه، ومن أراد بهم شرَّاً فاجعل دائرة السَّوء عليه، اللَّهمَّ إنَّا نسألك من خير ما سألك منه نبيُّك محمَّدٌ صلَّى عليه وسلَّم، ونعوذ بك من شرِّ ما استعاذك منه نبيُّك محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، ونسألك من الخير كلِّه عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشَّرِّ كلِّه عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونسألك الجنَّة وما قرّب إليها من قولٍ وعملٍ ونيَّةٍ واعتقادٍ، ونعوذ بك من النَّار وما قرَّب إليها من قولٍ وعملٍ ونيَّةٍ واعتقادٍ، وما قضيت لنا من أمرٍ فاجعل عاقبته رشداً، اللَّهمَّ ردَّنا إليك ردَّاً جميلاً، اللَّهمَّ ردَّنا إلى دينك ردَّاً جميلاً، ردَّنا إلى قرآنك وسنَّة نبيِّك صلَّى الله عليه وسلَّم ردَّاً جميلاً، اللَّهمَّ ردَّنا إليك، اللَّهمَّ لا توجِّه قلوبنا إلا إليك، ولا تجعل اعتمادنا إلا عليك، اللَّهمَّ إنَّا نسألك حبَّك، وحبَّ من يحبُّك، وحبَّ العمل الَّذي يقرِّبنا إلى حبِّك، ربَّنا لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى سواك طرفة عينٍ ولا أقلَّ من ذلك، اللَّهمَّ أصلح لنا شأننا كلَّه في الدِّين والدُّنيا والآخرة، اللَّهمَّ انصر الإسلام وأعزَّ المسلمين، وأهلِكِ الكفرة والملحدين، اللَّهمَّ عليك بأعدائك اليهود فإنَّهم لا يعجزونك، اللَّهمَّ إنَّهم بغوا وطغوا وجاوزوا حدَّهم… اللَّهمَّ إنَّ إخواناً لنا يذبَّحون، اللَّهمَّ إنَّ بيوتهم تهدم فوق رؤوسهم، وأولادهم يقتلون أمام عيونهم، وحرماتهم تنتهك… ولا نملك لهم إلَّا أنْ ندعوك، ونسألك ونرجوك، اللَّهمَّ فلا تخيِّبنا، اللَّهمَّ فلا تخيِّبنا، اللَّهمَّ لا نمتلك من أسباب النُّصرة إلَّا الدُّعاء فلا تردَّ دعاءنا علينا، اللَّهمَّ لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ*} ، اللَّهمَّ انصر الإسلام وأعزَّ المسلمين، وأهلِكِ الكفرة والملحدين أعداء الحقِّ والدِّين، اللَّهمَّ عليك بأعدائك اليهود فإنَّهم لا يعجزونك، اللَّهمَّ إنَّا نسألك أنْ تنصرنا نصراً عزيزاً مؤيَّداً، اللَّهمَّ هيئ لنا أمر رشدٍ يعزُّ فيه أهل طاعتك، ويذل في أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، اللَّهمَّ لا تعاملنا بما نحن أهله، وعاملنا بما أنت أهله فإنَّك أهل التَّقوى وأهل المغفرة، والحمد لله ربِّ العالمين.
عباد الله:
{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ*}.

الملفات الصوتية
الملف الأول3.41 MB
الملفات النصية
الملف الأول111.5 KB
أرسل هذه الصفحة إلى صديق
اسمك
بريدك الإلكتروني
بريد صديقك
رسالة مختصرة


المواضيع المختارة
مختارات

[حسن الظن بالله]

حسن الظن بالله يعني أن يعمل العبد عملاً صالحاً ثم يرجو قبوله من الله تعالى ، وأن يتوب العبد إلى الله تعالى من ذنب عمله ثم يرجو قبول الله تعالى لتوبته ، حسن الظن بالله هو ذاك الظن الجميل الذي يأتي بعد الفعل الجميل.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام : {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى.}
قال سبحانه في الحديث القدسي :{ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني } أنا عند ظن عبدي بي فإذا ظننت أنه يرحمك وأخذت بأسباب الرحمة فسوف يرحمك ، وأما إن يئست من رحمته وقصرت في طلب أسبابها فإنه لن يعطيك هذه الرحمة لأنك حكمت على نفسك والله تعالى سيحكم عليك بما حكمت أنت على نفسك .