الخطب > من السيرة النبوية 2
من السيرة النبوية 2

اختار الله جلّ وعلا له قومه و أمته ، ثم أختار له وسطه ومهنته ثم أختار له نسبه و أسرته ، أما الوسط الاجتماعي الذي خلق فيه فإنه شبه الجزيرة العربية المجتمع العربي ذاك المجتمع الذي كثرت المفاسد فيه وهو في ذلك إلى جوار غيره صالح إذ الفساد عند العرب لا يكاد يقاس بالفساد عند الأمم الأخرى الذي قطعت فيه أشواطاً وأشواطا ، العرب قوم يعبدون الأصنام ، كثيرون الذين كانوا يفعلون ذلك من الأمم ، العرب كانوا يشربون الخمور ، كان الفرس والروم يفعلون أشنع من ذلك ، فها هم هؤلاء الروم يجعلون المرأة سلعة تباع وتشترى يجعلون المرأة سبيلاً للذة بغض النظر عن الوسيلة ...

الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله نحمده نستعين به نستهديه نسترشده ، نتوب إليه نتوكل عليه . ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وفاسد آمالنا ، ونستغفره من سيئات أقوالنا وأعمالنا ، من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له معز المؤمنين وناصرهم ، مخز الملحدين وقاتلهم ، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا و قائدنا وقدوتنا محمداً عبده ورسوله ، وصفيّه وخليله ، خير نبي ٍ اجتباه وهدىً ورحمة للعالمين أرسله ، بلغ العلا بكماله ، كشف الدجى بجماله ، حسنت جميع خصاله، صلوا عليه وآله ، اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وارضَ عن خلفاءه الأربعة الميامين ، سادتنا أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سبطيه الأكرمين أبي محمد الحسن و أبي عبد الله الحسين وعن أمهما فاطمة الزهراء وجدتهما خديجة الكبرى ، وعن عائشة أم المؤمنين ، وعن جميع الآل والصحابة والأهل والأزواج والقرابة ، والتابعين ، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين .
{ وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ، ما للظالمين من حميم ٍ ولا من شفيع يطاع ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } أما بعد أيها الأخوة المؤمنون .
كان الإعداد مستمرا ، ما انفكت العناية الإلهية عن هذا الكائن ؟؟ وما كان لها أن تنفك ما انفكت عناية الله جلّ وعلا عنه لا قبل أن يخلق ولا بعد أن خلق ، { وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني } خطاب من الله جلّ وعلا لموسى ، ومحمد بهذا الخطاب أولى { وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني } {واصطنعتك لنفسي } شرف لموسى ، محمد عليه الصلاة والسلام به أجدر .اختار الله جلّ وعلا له قومه و أمته ، ثم أختار له وسطه ومهنته ثم أختار له نسبه و أسرته ، أما الوسط الاجتماعي الذي خلق فيه فإنه شبه الجزيرة العربية المجتمع العربي ذاك المجتمع الذي كثرت المفاسد فيه وهو في ذلك إلى جوار غيره صالح إذ الفساد عند العرب لا يكاد يقاس بالفساد عند الأمم الأخرى الذي قطعت فيه أشواطاً وأشواطا ، العرب قوم يعبدون الأصنام ، كثيرون الذين كانوا يفعلون ذلك من الأمم ، العرب كانوا يشربون الخمور ، كان الفرس والروم يفعلون أشنع من ذلك ، فها هم هؤلاء الروم يجعلون المرأة سلعة تباع وتشترى يجعلون المرأة سبيلاً للذة بغض النظر عن الوسيلة ، فهي جارية وهي مطربة وهي متاع من متاع الدنيا ، حسبك أن تعلم مقدار التخلف الذي كان محيطاً بالأمم ، حسبك لذلك أن تعلم ما قال فلاسفة اليونان وهم من هم في التفكير العقلي وفي المنطق والفلسفة ، بعد بحوث مضنية في العقل والمنطق وصلوا إلى نتيجة تقول : "المرأة إنسان" ، اكتشفوا هذه الحقيقة بعد طول عناء ومع ذلك قالوا هي ليست إنساناً مثل الرجل إنما هي من نوع ثانٍ من البشر خلقها الله تعالى لخدمة الرجل لا أكثر ، هذا ما كان بالضبط عند اليونان والرومان وأما في الشرق عند الفرس عند المجوس عند عبدة النار فلقد كانت المرأة وسيلة للذة بشكل أشنع وطريقة أفظع لقد كان زواج المحارم عندهم جائزاً فالرجل يتزوج بنته ويتزوج أخته بل ويتزوج أمه كل ذلك في شريعتهم مباح ، والعرب كانوا من ذلك سالمين ، كانت فضائل الأخلاق عندهم بقيت منها بقية ،كان لها أثر يذكر ، مع أن العرب كانوا تائهين ، ولا يقل قائل إن العرب أخرجوا الإسلام ، كذب من قال ذلك ، لا يقل قائل إن الوضع الطبيعي للعرب أن يخرج منهم نبي فيجعل النبوة تطوراً اجتماعياً منفصلاً عن الوحي الإلهي ويجعل الإسلام إصلاحاً من قبل مصلح ، مصلح من البشر تطورت أفكاره في ظل هذا المجتمع الفاضل فخرج بأفكار إصلاحية نيرة ، وينسوننا أنه وحي من الله جلّ وعلا نزل وأنها شريعة من قبل السماء سنت ، اختار الله له أن يخلق في العرب ، والعرب قوم فطريون إذا جادلت أحدهم فإنه لن يطول جدالك معه حتى تقنعه إلا أن يكون تعصباً أمثال أولئك المعاندين الذين كذبوا رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وأما لسانه ولغته فلقد كان لغة العرب ، ولغة العرب أشرف لغة وأصلح لغة يمكن أن ينزل بها شرع الله تعالى لأنها لغة جمعت من قوة التعبير ونصاعة الكلام وفصاحة الألفاظ وتراكب الكلمات وجزالة الروابط اللغوية ما لم تجمع لغة أخرى ، يقول المستشرق الفرنسي " كيبليو " لو كان للفصاحة على وجه الأرض موطن خرجت منه إلى العالم فتعلمتها شعوب الأرض ، لكان موطنها شبه الجزيرة العربية ، هذه المسألة معلومة عند علماء الألسن واللغات معلوم عندهم أن العربية أفصح اللغات لذلك اختيرت العربية لتكون لغة هذا النبي بل لتكون لغة كل مسلم إلى يوم القيامة ، بل لتكون لغة أهل الجنة ، أما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي حسنه السيوطي وغيره وضعفه آخرون :{ أحبّوا العرب لثلاث : لأني عربي ولأن القرآن عربي ولأن كلام أهل الجنة عربي } فالعربية إذاً صبغة صبغ بها المؤمن في الدنيا وصُبغ بها في الآخرة ، فكيف يصلي مسلم إن لم يقرأ القرآن في صلاته أو يقرأ القرآن بغير العربية وكيف تقام شعيرة الصلاة بغير آذان أو يأذن بغير العربية ؟ وكيف يلبي الحجيج في الحج إن لم يتقنوا العربية أو على الأقل قدراً تصح به عباداتهم ، العربية فرض على المسلم فلا تنفصل العروبة عن الإسلام يرحم الله تعالى شاعر العروبة والإسلام أبي الفضل الوليد الذي كان اسمه قبل أن يسلم " إلياس طعمة " الشاعر اللبناني من قرية " القبة الحمراء " التي أعلنها يوماً ما فقال: "إني قرأت القرآن وعرفت العربية فعرفت بأنه لا تكون عروبة بغير إسلام ولا إسلام بغير عروبة لذلك فإنني أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله" وتسمى أبا الفضل الوليد وكذلك فعل الفارس ؟؟ ذاك الشاعر العربي المسلم الذي ساقته عروبته إلى إسلامه .
ما من عبث اختيرت العربية لينزل القرآن بها وليبعث النبي المنتظر بها اختيرت له لغته .
لقد أعده الله جلّ وعلا من وجه ثان فاختار له نسبه و وأسرته فهو من العرب والعرب قوم يحترمون أصحاب النسب الرفيع وأصحاب المجد ، وكذلك كل أمة تحترم نفسها ، لذلك تجد الأمم المتحضرة أمماً تحترم أنسابها ، وأما الأمم المتمدنة التي لا حضارة عندها فإن الأنساب تضيع فيها فلا تعرف لواحد منهم أقصى من الجد أو والد الجد من أصول لأن هذه مسألة لا تهمهم ولأن انعدام الفضائل جعل الأنساب تختلط فقد يكون مولوداً غير شرعي أو والده مولوداً غير شرعي لا بد في تلك الأمم من أن يوجد واحد من أسلافه يكون مولوداً غير شرعي فمن أين يعرف نسبه ، وأما الأمم صاحبة الحضارة صاحبة الشخصية فإنها أمم تحترم الأنساب فيها ، لأن النسب دليل عراقة ودليل أصالة وكان العرب كذلك كان العرب يحترمون أنسابهم والإسلام أقر ذلك فيهم أقر احترام النسب عندهم فها هو عليه الصلاة والسلام { يُسأل : من أكرم الناس ؟ يقول : أتقاهم } يقولون : ليس عن ذلك نسألك ، من أكرم الناس ؟ فيقول : الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم ؛ يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم . يقولون : ليس عن ذلك نسألك ، من أكرم الناس ؟ فيقول لهم : فعن معادن العرب تسألونني ؟ قالوا : نعم . قال : الناس معادن ؛ فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.} الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا .
أقر الإسلام شرف النسب ومكانة القوم من أجل ذلك اختير محمد عليه الصلاة والسلام أوسط قومه نسباً وكذلك كل نبي كان يبعث في أوسط قومه نسباً ، كل الأنبياء بعثوا كذلك ، ما من نبي بعث نكرة لا يعرفه أحد أو مغموراً لا يعرف نسبه أحد ، هاهو عليه الصلاة والسلام يعلن هو ابن مَن ، فيقول :{ أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب } . اعرفوني أيها العرب يا من تحترمون أنساب أصحاب الأنساب هأنذا سليل النسل أنا بن عبد المطلب ، أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب بل هاهو عليه الصلاة والسلام ينتسب إلى جده العشرين ليعلن أنه ليس نكرة بين القوم وليس واحداً جاء من الصفوف المتأخرة من قبيلته وقومه وعشيرته وأمته ، إنما جاء من الصف الأول ومن ؟؟ الأول فها هو يقول : { إن الله اصطفى من العرب كنانة ثم اصطفى من كنانة قريشاً ثم اصطفى من قريش بني هاشم ثم اصطفاني من بني هاشم } { إن الله اصطفى من العرب كنانة ثم اصطفى من كنانة قريشاً ثم اصطفى من قريش بني هاشم ثم اصطفاني من بني هاشم }.. وهاهو عليه الصلاة والسلام يقول :{ إن الله خلق الخلق فجعلهم فرقتين ، فجعلني في خيرهم فرقة ، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة ، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة ، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً ، ثم جعلني خيرهم نفساً ، فأنا خيار من خيار من خيار .} خيار من خيار من خيار ، هاهو ينتسب فيقول : { أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .} فيعلن أنه من العرب الصرحاء ومن سليل المجد الخلصاء بل هاهو عليه الصلاة والسلام معروف بين النسّابة أماً أما وجدةً جدة فها هم يخبروننا من أي زوجات عبد المطلب ولد ، ومن أية زوجات بني هاشم ولد ، ومن أي زوجات عبد مناف ولد ، ويخبروننا بنسب كل واحدة من جداته حتى نتأكد من صحة كلامه إذ قال :تنقلت في أصلاب الطاهرين أي إنه تنقل عند آباء شرفاء في أصلابهم بغض النظر عن إيمان وكفر ، إذ إن في أسلافه أناساً ترسخ كفرهم مثل آزر والد إبراهيم عليه السلام الذي تأكد كفره في نص الكتاب وظهر لكل ذي بصر وبصيرة أن آزر هو والد إبراهيم وليس عمه كما يزعمون ، فلم يعنِ أنه تقلب في أصلاب الطاهرين أنهم جميعاً مؤمنون إنما هم شرفاء في أقوامهم خلصاء في أنسابهم .
اختار الله جلَّ وعلا له نسباً واختار له أسرته جده عبد المطلب ، وعبد المطلب هو ذاك الرجل الذي جاءت له قريش بعد أن رأت منه عجباً ، رأت منه أموراً ما فهمتها إلا أن الله يريد أن يجعله سيداً ؛ هاهم أفراد قبيلة قريش ينازعون عبد المطلب في بئر زمزم بعد أن حفر عبد المطلب بئر زمزم ، الذي حفر في عهد إسماعيل ومرت عليها عهود حتى ردمها نسل الجراهمة نسل أحماء إسماعيل الذين تزوج منهم من قبيلة جرهم ، ردموا زمزم ومروا وبقيت على تلكم الحال عهوداً طويلة ، حتى رأى عبد المطلب رؤيا سمع فيها هاتفاً يقول له احفر زمزم ، ثم سمع في الرؤيا مرة أخرى هاتفاً يقول : احفر المضمونة ، ثم سمع الثالثة يقول : احفر زمزم . قال : وما زمزم ؟ قال : " لا تنزح ولا تذم عند نقرة الغراب الأعصم ما بين الفرث والدم " ( لا تنزح ولا تذم ) ماؤها زلال ولا ينضب نبع الماء منها ، ( عند نقرة الغراب الأعصم ) حيث وقف غراب نادر الوجود بين الغربان لأن كله بلون وإحدى رجليه بلون آخر ( ما بين الفرث والدم ) حيث وقف الغراب ينقر من بقايا الإبل المنحورة والجزر المجزورة إلى جوار الكعبة ومضى عبد المطلب إلى الكعبة فرأى العلامة وحفر عندها فخرج زمزم ، قالت قريش : نحن أحق بالسقاية منك نحن الذين نتشرف بسقاية الحجاج من زمزم ، قال بل أنا الأحق لأني أنا الذي رأيت في منامي الرؤيا . تنازعوا فمضوا إلى عرافة في الشام لتحكم بينهم وأصابهم العطش على الطريق وعدموا الماء وكادوا يموتون حتى قرر كل واحد منهم أن يحفر لنفسه قبراً حتى إذا مات دفنه أصحابه في القبر ، إلا أن عناية الله أنقذتهم ؛ فهاهي ذي فرس عبد المطلب تبحت في الأرض بقوائمها فينبع من تحت القوائم بئر ماء فيشربون ويرتوون و يسقون ويستقون ، ثم يقولون له : والله لا ننازعك زمزم أبداً ، الذي أعطاك هذا هو الذي أعطاك زمزم ، وأيقنوا بسيادته على الروم ، فلما جاء أبرهة الأشرم الحبشي لهدم الكعبة ما تصدر للقائه غير عبد المطلب ، والحادثة مشهورة معلومة للصغار والكبار ، حيث قال له ؟؟ قال : أولست سيد قريش أين سيادتك وأنت تدع الكعبة وكعبة قومك وتطالب بإبلك ، فأجابه عبد المطلب بوثوق : أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه ، وتلك لغة لا يفهمها أبرهة وأمثاله ، إنما يفهمون لغة القوة الظاهرة ، وأما قوة الله الكامنة فإنهم لا يعرفونها إلا بعد أن يروها أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه ، ويمضي عبد المطلب إلى الكعبة المشرفة ويمسك بمقبضها ويستنجد الله تعالى فيقول :
لاهمّ إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك
وفعل الله بهم ما تعلمون ؛ أرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل .
وأما ولده الذي تشرّف بأبوته لمحمدٍ عليه الصلاة والسلام فإنه أحب أبناءه إليه عبد الله وأوسط أبناء عبد المطلب قدراً وأصغرهم سنا ، إلا أن يكون فيهم خيراً منه لا نعلم . عبد الله الذبيح الثاني الذي إليه نسب النبي عليه الصلاة والسلام إذ قيل له يوماً : السلام عليك يا ابن الذبيحين . فأقر هذا اللقب ؛ أما الأول فإسماعيل { وفديناه بذبح عظيم } وأما الثاني فعبد الله الذي نذر والده أن يذبحه ، أن يذبح أصغر أبناءه إذا صار عنده عشرة من الولد يبلغون الحلم فيحمونه ويدفعون عنه أذى أعدائه وكان ذلك وهم أن يذبحه ففداه قدر الله جلّ وعلا بالطريقة التي تعلمونها جميعاً ، حيث حكي له بأن يذبح مائة من الإبل بعد أن ضرب القرعة عشر مرات ففدي عبد الله بمائة ناقة ، فكان عليه الصلاة والسلام ابن ذبيحين . في المرتين كاد نسبه ينقطع ، ولكن لابد من أن يفدى إسماعيل حتى يظهر محمد ، ولابد من أن يفدى عبد الله حتى يظهر محمد ، ولابد من أن تتضافر الظروف كلها وتتلاءم حتى يظهر هذا القدر العظيم الذي ينتظر البشرية جمعاء لا بل قل العالمين أجمعين .
اختار الله له والده ، واختار الله له والدته من أوسط قريش نسباً كذلك ، فهي سيدة الحسب والنسب من بني زهرة ، وعبد الله من بني قصي ، وكلاهما ينتميان إلى كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي .
لقد هيأت العناية الإلهية أن الظروف كلها لنبوة النبي قبل ظهور النبي ، فماذا عن الظروف من بعد ظهور النبي ؟ كانت الظروف التي تنم عن عناية الله جلّ وعلا لهذا الطفل ماثلة للعيان واضحة لكل ذي جنان فهو عليه الصلاة والسلام يربى بتربية الله جلّ وعلا ويؤدب بتأديبه ويعتنى به بعنايته منذ أن خلق ورأى النور ، حتى اسمه كان من الله ، كما أخبرت الآثار والروايات أن عبد المطلب رأى في منامه من يقول له : سيولد لك ولد - أي لولدك - لا فسميه محمدا . وسماه محمدا . وورّى لما سئل فقيل له لم سميته محمداً وهو اسم لم يعرفه العرب ؟ قال : أردت أن يحمده الله في السماء ويحمده الناس في الأرض ، أو : أردت أن يحمده الناس في الأرض ويحمده أهل السماء .
العناية الإلهية اختارت له اسمه ثم رُبي وأدب ، فقد روي في الحديث الضعيف الذي صح معناه أنه عليه الصلاة والسلام قال : أدبني ربي فأحسن تأديبي، أدبني ربي فأحسن تأديبي . لم تكن واعياً للفارق العظيم بين النبي وغيره وبين علم النبوة وغيره من العلوم فالنبي يعطى دون أن يطلب وأما غيره فيطلب حتى يعطى . الناس يتأدبون والأنبياء يؤدبون ، الناس يتعلمون والأنبياء يعلمون ، الناس يتفقهون والأنبياء يفقهون ، الناس يتزكّون والأنبياء يزكَّون ، الناس يطلبون والأنبياء يُطلبون ، الإنسان يطلب العلم من بابه من طريقه وسبيله ، وأما النبي فإن العلم يُصب فيه صباً ويعطى له دون طلب ، فليست النبوة جامعة أو أكاديمية يدخلها المرء بمحض اختياره ويدرس فيها مناهج صعبة أو سهلة ويقضي فيها سنيناً طوالاً أو قصارا حتى يأخذ الشهادة التي تؤهله ليكون نبياً ، وليست النبوة مسألة يبحث المرء عنها حتى يجدها إنما النبوة تأتي للمرء الذي أعد لها دون أن ينتظرها ، محمد عليه الصلاة والسلام سمع أقاويل كثيرة في نبوته من أن له شأناً عظيماً فتكلم بحيرا عن ذلك وتكلم الرهبان عن ذلك وكان يسمع كلام عجيباً يشير إلى أنه سيكون يوماً من الأيام نبياً ، ولكن ما كان يعرف ما تعني هذه النبوة ، حتى إذا جاءته النبوة فاجأته وأذهلته ، فإذا جاءه الملاك وقال له : اقرأ . قال: ما أنا بقارئ . وما عرف لذلك معنىً ولا تأويلاً فإذا نزلت الآيات عليه رجع إلى بيته مذهولاً مذعوراً وهو يقول : زملوني ، زملوني ، دثروني ، دثروني ويخشى أن يكون به هذي لأنه ما كان ينتظر هذه النبوة وما كان يعلم أبعادها وما كان موقناً بكنهها وحقيقتها ، وكذلك الأنبياء كلهم ؛ فها هو موسى عليه السلام يؤمر بأن يقذف عصاه { وألق ما في يمينك } ، فيرميها { فلما رآها تهتز كأنها جانٌ ولى مدبراً ولم يعقب } لقد خاف مما رأى ولم يدر ما تعني هذه الحادثة وما تعني هذه النبوة وما يعني هذا الوحي ، كل هذه كانت مجهولة لموسى قبل أن يكون نبياً ، { ما كنت تدري ما الكتاب وما الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء } ما كنت تدري ما الكتاب وما الإيمان ما كنت تنتظر أن يلقى إليك هذا الوحي وأن تنبأ هذا النبوءة وأن تنزل عليك هذه الآيات . لقد كانوا يزكون ولا يتزكون ، الناس يتزكون حتى يزكوا { قد أفلح من تزكى } ، لقد كانوا يُعلمون ولا يتعلمون وغيرهم من البشر يتعلمون حتى يعلموا { إن العلم بالتعلم } ، لقد كانوا يُصبرون ولا يتصبرون وغيرهم يتصبرون حتى يصبروا : إنما الحلم بالتحلم والصبر بالتصبر وهكذا النبي يُطلَب وغير النبي يَطلُب .
فها هو عليه الصلاة والسلام يربى تربية فاضلة في مجتمع فاسد ، وهاهو يشق طريق الصلاح في وسط الفجور ، ما بعقل زائد عنده وذكاء وعبقرية ، بل بتوجيهٍِ من الله جلّ وعلا ، فلا يسجد لصنم لا لأنه قرر ألا يسجد لصنم كما قرر الحنفاء أمثال أمية بن أبي الفضل وزهير بن أبي سلمى وغيرهما ، إنما هو امتنع عن السجود للأصنام لأن الله منعه من ذلك ، مُنع ولم يمتنع ، برهان ذلك تلك الحادثة الجليلة المهيبة التي حدثت في فتوته ، صلوات ربي وسلامه عليه ، عندما كلمته عماته وعمه أبو طالب ، فقالوا له : يا محمد إننا لا نراك تسجد لصنمنا صنم بني هاشم صنم بني عبد المطلب كل بني هاشم يسجدون له وأنت لا تسجد له ، نخشى أن يلحقك الأذى من جراء ذلك ، نخشى أن يؤذيك الصنم فاذهب إلى الصنم فاسجد له حتى يرضى عنك ، فما كان موقف النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ، هل جادلهم بفلسفة عالية هل جادلهم بمنطق سام هل خاطبهم بعبارات محكمة ليقنعهم بأن هذا الذي يطلبون بعيد المنال وبأنه ما كان ليسجد لصنم ؟ لا ، كل ذلك لم يكن ، لأنه ما كان يعلمه إنما هو يسير بتسيير من الله ويوجه بتوجيهه ، لقد استجاب لهم ، ومضى إلى الصنم ليسجد له ، ولكن ما هي إلا لحظات أو دقائق حتى عاد إليهم - صلوات ربي وسلامه عليه - ممتقطع اللون مصفر الوجه ، قد ظهرت عليه أمارات الرعب والفزع ، قالوا له ما بالك ؟ خشوا أن يكون قد أصابه أذىً أو حدث له حادث . قالوا: ما الخطب ؟ فأخبرهم أخبرهم بمظهر من مظاهر العناية الإلهية ، قال لهم : اقتربت من الصنم وأردت أن أسجد له فخرج لي من حيث لا أعلم رجل عظيم عليه ثياب بيضاء وقال لي : "وراءك ، وراءك ، فإنك لم تخلق لذلك ." وراءك ، وراءك ارجع من حيث أتيت ، فإنك لم تخلق لذلك ، كلما اقتربت من الصنم وأردت أن أسجد له خرج لي الرجل فقال لي كما قال ، وراءك ، وراءك فإنك لم تخلق لذلك ، الله ما خلقك لتسجد للأصنام ، الله ما خلقك لتعبد غيره ، تذل العز الذي أعطاك إياه بغيره ، لقد هيأه الله دون أن يعلم أبعاد ذلك - صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، هل عرفت إذاً أنه كان يُعلّم وإن لم يتعلم يُزكّى ولو ما تزكى ، { أدبني ربي فأحسن تأديبي } وهاهو في كتاب الله : { وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني } محمد عليه الصلاة والسلام يستحقها مثلما يستحقها موسى وأكثر { واصطنعتك لنفسي } .
ها هو عليه الصلاة والسلام تظهر عليه أمارات العناية في ديار بني سعد بن بكر ، عند حليمة بنت أبي ذؤيب مرضعته عندما أتاه جبريل عليه السلام والحديث رواه مسلم وغيره عن أنس بن مالك أتاه جبريل وكان يلعب عليه الصلاة والسلام مع الصبيان ، يلعب مع الغلمان ، أتاه جبريل فصرعه - أرجعه على ظهره - وشق له صدره وأخرج من صدره قلبه وأخرج منه علقة سوداء وقال : هذا حظ الشيطان منك ثم غسل قلبه بطست من ذهب فيه ماء زمزم ثم أعاد القلب إلى موضعه و خاط موضع العملية الجراحية التي أجراها . وذهب الغلمان إلى حليمة وقد بلغ منهم الفزع كل مبلغ وهم يقولون أدركي أخانا القرشي فقد قتل لقد قُتل أخونا القرشي ، جاءت أخته الشيماء - أخته في الرضاعة - وغيرها يخبرن حليمة فأسرعت حليمة لترى الخبر فرأته جالساً مصفر الوجه ممتقع اللون فسألته ما حدث فأخبرها ، قد يحلو لأناس مشككين بالخوارق من إرهاصات ومعجزات أن ينكروا هذا الإرهاص أو يؤولوه ولكنه والله ثابت ، قد يقولون إن هذه مسألة رمزية لا تعني أن يخرج القلب إذ كيف يعيش الإنسان بدون قلب والأوردة والشرايين والشريان الرئوي والشريان الأبهر والدورة الدموية الصغرى والدورة الدموية الكبرى كل هذه أين ذهبت ؟ إذا قلنا أن القلب أخرج من الجسد إذاً ماذا يقول ابن النفيس ؟ وماذا يقول وليم هارلي وماذا يقول علماء التشريح ؟ كيف تستمر الحياة بدون دم وبدون قلب ، نقول : إذا تكلم النص فليخرس العقل ، إذا تكلم النص فليس للعقل مجال لأن يتكلم ، لأن النقل على العقل حاكم ، والعقل للنقل محكوم ، لأن النقل مطلق لا يقيده شيء وأما العقل فثمة قيود كثيرة تحد عمله ، فلابد أن نخضع للنص ، القلب أخرج ؟ نعم أخرج . الصدر شُق ؟ نعم شُق ، في هذه المرة فقط ؟ لا بل مرة أخرى ؛ ليلة المعراج ، عندما شق صدره مرة أخرى وغسل قلبه مرة ثانية ؛ أخرج من قلبه حظ الشيطان ، نعم هذا رمز ؛ فليس في قلب كل إنسان علقة سوداء هي حظ الشيطان يجري عملية جراحية يخرج بها هذه العلقة فيصير مثل الملائكة و مثل الأنبياء ، إنما هي المجاهدة ، { ما منكم إلا قد وُكل به شيطانه يجري منه مجرى الدم من العروق . قالوا : حتى أنت يا رسول الله ؟ قال : حتى أنا ، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير } هذه ثمرة من ثمرات شق الصدر وإخراج العلقة {إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير .
كانت العناية الإلهية إذاً موجهة إليه ، ظهرت في ولادته ، ظهرت في بيئته ، ظهرت في أسرته ، ظهرت في لغته ، ظهرت في طفولته ، ظهرت في فتوته ، ظهرت في شبابه ، ظهرت في أنه سمي الصادق الأمين ، وذلك محض فضلٍ من الله جلّ وعلا ، ظهرت في أنه صار بين قومه محبوباً ، وصار فيهم محترماً . كل ذلك محض فضلٍ من الله جلّ وعلا وكل هذا كان إعداداً لهذا الطفل ، بل قل لهذا الكائن - الذي ما كان ولد - ، ثم لهذا الطفل ، ثم لهذا الفتى ، ثم لهذا الشاب ، ثم لهذا الرجل لينوء بهذا الحمل بل ليتحمله دون أن ينوء به حتى يتحمل حملاً عظيماً فيكون له أهلاً ، فإذا سأل أصحابه : { ألا هل بلغت ؟ } أجابوه جميعاً : اللهم نعم . فيقول له سبحانه : {اللهم اشهد اللهم اشهد } لقد كان لتلك الرسالة أهلاً ، فإن كانت تلك كلها مظاهر من مظاهر إعداده للنبوة ، فما هي المراحل التي مرت بها هذه النبوة ؟ أكان لِما قبل النبوة علاقة بما بعدها ؟ ثم هل النبوة التي بدأت بالوحي الذي نزل في غار حراء وانتهت بوفاة النبي عليه الصلاة والسلام : هل هي كلها مرحلة واحدة ؟ تشابهت وتماثلت أحداثها ؟ أم أن ثمة مراحل تقدمت النبوة لها قبلها وبعدها ؟ هذه المراحل ستكون بإذن الله تعالى موضوعاً لحديث قادم أو أحاديث قادمة بإذن الله تعالى ، نسأل الله جلّ وعلا أن يزيد معرفتنا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيزيد حبنا له ، فيزيد اتباعنا له ، إذ ذلكم هو السُلّم المقبول لعلاقتنا معه ؛ معرفةٌ فمحبة فاتباع ، وكل خلل في هذا السلم فيه خلل في إيماننا ، نسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، أقول هذا القول وأستغفر الله .
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيه وإرغاما لمن جحد به وكفر وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الشفيع المشفع في المحشر ما اتصلت عين بنظر ووعت أذن بخبر أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله وأحثكم وإياي على طاعته وأحذركم وبال عصيانه ومخالفة أمره واعلموا أنه لا يضر ولا ينفع ولا يصل ولا يقطع ولا يعطي ولا يمنع ولا يخفض ولا يرفع ولا يفرق ولا يجمع إلا الله ، واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأه بنفسه وثنى بملائكة قدسه وعرشه ، فقال تعالى : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما . اللهم صل على محمد و آل محمد كما صليت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد و وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد .
اللهم أيد الإسلام وأعز المسلمين وأعل وأنصر يا مولانا الحق والدين اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين خيراً فوفقه إلى كل خير ومن أراد بالإسلام والمسلمين شراً فخذه أخذ عزيز مقتدر واجعله عبرة لمن أراد أن يتذكر أو يعتبر ، اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم والفوز بالجنة والنجاة من النار ، لا تدع اللهم لنا ذنباً إلا غفرته ولا هم إلا فرجته ولا كرباً إلا نفّسته ولا ديناً إلا قضيته ولا مريضاً إلا شفيته ولا مبتلاً إلا عافيته ولا ضالاً إلا هديته ولا مظلوماً إلا نصرته ولا ظالماً لنفسه إلا أصلحته ولا ظالماً لنا إلا قصمته ولا دعاء إلا أجبته ولا حاجة لك فيها رضا إلا تفضلت علينا بقضائها يا قاضي الحاجات يا مجيب الدعوات يا كاشف الملمات يا سامع الأصوات يا رب الأرضين والسماوات يا مبدل السيئات حسنات بدل سيئات حسنات يا ظهر اللاجئين ويا جار المستجيرين يا أمان الخائفين يا دليل المتحيرين يا هادي الضالين يا مقوي الضعفاء إنا ضعفاء فقوّنا إنا محرومون فأعطنا إنا فقراء فأغننا إنا أذلاء فأعزنا إنا مقهورون فانصرنا إنا مذنبون فتب علينا واغفر لنا وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً اللهم ردنا إلى قرآنك رداً جميلا اللهم ردنا إلى سنة نبيك صلى الله عليه وسلم رداً جميلاً . واغفر اللهم للمسلمين والمسلمات المؤمنين والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك يا مولانا سميع قريب مجيب الدعوات والحمد لله رب العالمين . عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون . أقم الصلاة .

الملفات الصوتية
الملف الأول2.46 MB
أرسل هذه الصفحة إلى صديق
اسمك
بريدك الإلكتروني
بريد صديقك
رسالة مختصرة


المواضيع المختارة
مختارات

[حسن الظن بالله]

حسن الظن بالله يعني أن يعمل العبد عملاً صالحاً ثم يرجو قبوله من الله تعالى ، وأن يتوب العبد إلى الله تعالى من ذنب عمله ثم يرجو قبول الله تعالى لتوبته ، حسن الظن بالله هو ذاك الظن الجميل الذي يأتي بعد الفعل الجميل.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام : {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى.}
قال سبحانه في الحديث القدسي :{ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني } أنا عند ظن عبدي بي فإذا ظننت أنه يرحمك وأخذت بأسباب الرحمة فسوف يرحمك ، وأما إن يئست من رحمته وقصرت في طلب أسبابها فإنه لن يعطيك هذه الرحمة لأنك حكمت على نفسك والله تعالى سيحكم عليك بما حكمت أنت على نفسك .