مواضيع متنوعة > أموال المسلمين في خدمة رسول الله
أموال المسلمين في خدمة رسول الله

نريد أن نتعرّف كيف يمكن للمسلم صاحب المال أن يجعل ماله هذا في خدمة النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام في مثل هذا الظّرف، كيف يمكن أن ترشّد هذا الصّحوة وهذه الفورة أو الثّورة وهذا الغليان حميّةً للنّبيّ عليه الصّلاة والسّلام ليتحوّل كلّ هذا إلى ظواهر دائمةٍ مؤصّلةٍ في المجتمع المسلم، لا إلى مجرّد حالةٍ مؤقّتةٍ تنتهي بزوال أسبابها،

أموال المسلمين في خدمة رسول الله: 13 / المحرم / 1427 هـ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم على سيّدنا محمّدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللّهمّ أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه وحبّبنا فيه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وكرّهنا فيه، اللّهمّ حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الرّاشدين، اللّهمّ اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلاّ أنت، واصرف عنّا سيّئ الأخلاق لا يصرف عنّا سيّئها إلاّ أنت، اللّهمّ اجزِ عنّها نبيّنا محمّداً صلّى الله عليه وسلّم خير ما جزيت نبيّاً عن أمّته، اللّهمّ إنّا نسألك حبّك وحبّ من يحبّك وحبّ العمل الّذي يقرّبنا إلى حبّك، وصلِّ اللّهمّ على سيّدنا محمّدٍ وعلى آله وصحبه وسلّم.
في لقاءاتٍ ماضيةٍ عرفنا بعض أوجه خدمة النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام ونصرته من خلال العمل الاجتماعيّ، ومن خلال الاجتهاد العلميّ والفكريّ، وأخذنا طرائق نردم من خلالها الهوّة الّتي باتت تفصل بين المسلمين ونبيّهم المصطفى صلوات الله وسلامه عليه.
نريد أن نتعرّف كيف يمكن للمسلم صاحب المال أن يجعل ماله هذا في خدمة النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام في مثل هذا الظّرف، كيف يمكن أن ترشّد هذا الصّحوة وهذه الفورة أو الثّورة وهذا الغليان حميّةً للنّبيّ عليه الصّلاة والسّلام ليتحوّل كلّ هذا إلى ظواهر دائمةٍ مؤصّلةٍ في المجتمع المسلم، لا إلى مجرّد حالةٍ مؤقّتةٍ تنتهي بزوال أسبابها، المال كما نعلم أيّها الأحبّة خادمٌ مهمٌّ جدّاً في الدّعوة إلى الله، خادمٌ مهمٌّ جدّاً لأغراض الخير كما هو خادمٌ مهمٌّ لأغراض الشّرّ، وقد بيّن النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام أنّ من أفضل منازل النّاس رجلاً أعطاه الله المال والإيمان والتّقوى، فسخّر ماله لخدمة الأهداف النّبيلة، في طاعة الله ونصرة دينه فقال صلوات الله وسلامه عليه: [ إنّما الدّنيا لأربعة نفر، رجلٌ أتاه الله مالاً وعلماً؛ فهو يتقي فيه ربّه ويصل فيه رحمه ويعرف لله فيه حقّاً فهذا بأفضل المنازل، ورجلٌ أتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو أنّ لي مثل فلانٍ لعملت بعمله فهو بنيّته وأجرهما سواء، ورجلٌ آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط في ماله بغير علم؛ لا يتقي فيه ربّه ولا يصل فيه رحمه ولا يعرف لله فيه حقّاً فهذا بأخبث المنازل، ورجلٌ لم يؤته الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أنّ لي مثل فلانٍ لعملت بعمله فهو بنيّته فوزرهما سواء ] صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
في هذا الحديث بيانٌ بأنّ صاحب المال التّقي الصّالح إذا وضع ماله في الطّرق الّتي ترضي الله تعالى فإنّه خير أنواع النّاس على الإطلاق، وفي هذا جاء في بعض الآثار: ( نعم المعين على المروءة المال ).. كما رُوي هذا عن سيّدنا عليٍّ كرّم الله وجهه، ورُوي أيضا: [ نعم المال الصّالح للرّجل الصّالح ] ، فإذا امتلك صاحب المال علماً وتقوى كان ماله من أمضى الأسلحة في خدمة الإسلام ومحاربة أعداء الإسلام، ولا يغيب عنّا دور المال في صدر الإسلام في نهوض الدّعوة الإسلاميّة، لم يكن المال صاحب الدّور الأهمّ؛ كانت تربية النّفوس وبناء الأفكار في المقام الأوّل، ولكن جاء المال ليخدم هذا الهدف وليخدم هذا المنهج النّبويّ الدّعويّ التّربويّ وكان له أكبر الأثر في خدمة هذا الهدف، وخاصّة في ما بعد المرحلة المكّيّة خلال المرحلة المدنيّة.
وإذا أردنا أن نستعرض بعض المواقف الّتي كان للمال فيها دورٌ طيّبٌ في خدمة الإسلام ومناصرة دعوة الإسلام أوّل ما يستوقفنا مواقف الصّديق أبي بكرٍ رضوان الله عليه الّذي جعل ماله كلّه خادماً للإسلام ولنبيّ الإسلام عليه صلوات الله وسلامه.
في بدايات دعوة النّبيّ المصطفى صلوات الله وسلامه عليه دخل في الإسلام أناسٌ غالبيّتهم من المستضعفين، وكان كثيرٌ منهم من العبيد المملوكين، فلقوا من سادتهم أشدّ أنواع الأذى، فتصدّى أبو بكرٍ رضوان الله عليه لنصرة إخوانه المستضعفين ووضع ماله في خدمة هذا الهدف، فكان يشتري بحرِّ ماله كلّ عبدٍ مستضعفٍ مؤمنٍ يعذّبه سيّده ويسيء إليه ويهينه ويعتقه لوجه الله، اشترى بلالاً وأعتقه وفي هذا يقول سيّدنا عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: [ أبو بكرٍ سيّدنا وأعتق سيّدنا] رضوان الله عليهم... ما أعظم محبّتهم وما أعظم تواضع بعضهم لبعض [أبو بكرٍ سيّدنا وأعتق سيّدنا ]... لم يكن يخطر ببال عربيّ في ذلك العهد أن يقول عن عبدٍ سابقٍ: إنّه سيّده، ولكن الإسلام غيّر النّفوس؛ فصار سيّدنا عمر يقولها دون أن تُطلب منه إنّ بلالاً سيّدُنا - وهو العبد الحبشيّ - لأنّ الإسلام ربَّى النّفوس وهذَّبها، واشترى سيّدنا أبو بكرٍ عامر بن فهيرة وأعتقه لوجه الله واشترى جاريةً لبني مؤمّل وأعتقها لوجه الله، وكان يشتري ويُعتق على أساس الإيمان، أمّا العرب فإنّهم إذا أعتقوا في ذلك العهد فإنّهم كانوا يشترون ويعتقون على أساس القوّة، فيتخيّرون العبيد الأقوياء، فيشترونهم ويعتقونهم، لأنّ للسّيّد المُعتِق على العبد المُعتَق حقّاً يسمّى حقّ الولاء، وحقّ الولاء يكاد لا يقلّ في أهميّته عن حقّ النّسب حتّى إنّ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام قد قرن بين النّسب والولاء فقال: [ ليس منّا من انتسب إلى غير أبيه أو ادّعى غير مواليه ] .. فله إذاً حقّ على مُعْتَقِه، وهذا قد يفيده في المستقبل، إذا دخل في خصومةٍ فإنّه يحتاج إلى من يناصره فكما يناصره أولاده يناصره عتقائه ومواليه، ولهذا كانوا يتخيّرون العبيد الأقوياء، وأمّا أبو بكر كان يعتق عبيداً لا يفيدون في خصومةٍ ولا ينفعون في حربٍ أو معركةٍ، فقال له أبوه أبو قحافة قبل أن يدخل في الإسلام - طبعاً لم يدخل أبو قحافة في الإسلام إلاّ عام فتح مكّة - قال له: [ يا بني إني أراك تعتق عبيداً ضعفاء فلو تخيّرت العبيد الأقوياء فأعتقتهم، فقال أبو بكرٍ: إنّما افعل ذلك ابتغاء وجه الله ] ، لا أريد من أحدٍ أن ينصرني ولا أريد أن استفيد من وراء إعتاقي للعبيد فانزل الله تعالى في فضل أبي بكر رضوان الله عليه آيات يمدح بها إلى أن يأتي أمر الله: { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى *‏ } نزلت هذه الآيات في أبي بكر رضوان الله عليه، ولا ننسى صنيع أبي بكرٍ رضوان الله عليه يوم الهجرة حيث أخذ كلّ ماله لينفقه على النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام على خدمته وخدمة دعوته، وترك أولاده وبناته دون مال، ترك زوجته وأباه وأخذ كلّ المال لينفقه في خدمة الإسلام، وجاء أبو قحافة كما نذكُر تلك القصة الطّريفة: [ وكان قد عمي بصره فدخل البيت فقال لأحفاده وحفيداته: ترككم أبوكم و فجعكم بنفسه وماله؟! ( يعني هاجر هذه مصيبة ولكن أن يأخذ ماله معه ويدعكم دون مال؛ فهذه مصيبة كبرى ) فجعكم أبوكم بنفسه وماله؟! فقالت له أسماء: لا يا جدّ لقد ترك لنا خيراً كثيراً، قال: أرني أين هذا الخير، قالت: فعمدت إلى أحجارٍ وحصى ووضعتها في كوة المنزل وأتيت بخرقةٍ فوضعتها عليها وأخذت يد جدي وجعلته يتحسّس على الحجر والحصى وهو يظنّها دراهم ودنانير، فلمّا تلمّسها قال لا بأس إن كان ترك لكم كلّ هذا الخير فلا بأس إن سافر، قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئاً أبداً أخذ كلّ ماله لينفقه على النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام ] ، وكان ذلك؛ فبهذا المال الطّيب المبارك اشترى أبو بكر رضوان الله عليه الأرض الّتي بني عليها المسجد النّبويّ في المدينة المنوّرة، دفع ثمن الأرض من حرّ ماله، وبهذا المال صنع أشياء وأشياء وبارك الله في مال أبي بكر وعوّضه ورزقه, ولا ننسى دور المال في يوم غزوة تبوك ( غزوة العسرة ) حيث حضّ النّبيّ عيه الصّلاة والسّلام أصحابه على الإنفاق في سبيل الله، فجاء عمر رضوان الله عليه بنصف ماله, بنصف ما يملك..! ويا لها من قوّةٍ ومن شجاعةٍ أن يتصدّق الإنسان بنصف أملاكه على الإطلاق!! والواحد منّا عندما ينفق زكاة ماله - ربع العشر، واحد من أربعين، اثنين ونصف بالمئة - يجد في ذلك صعوبة ويقسِّطها ويوزّعها على مدى سنةٍ كاملةٍ لئلاّ يشعر بثقلها.., فكيف يُخرج خمسين بالمئة من أملاكه دفعةً واحدةً في لحظةٍ يضعها هكذا فيفقدها وبكلّ طيب نفس!! قال: ما أبقيت لأهلك وعيالك يا عمر, قال أبقيت لهم نصف مالي, وظنّ عمر أنّه لن يسبقه اليوم أحد, لأنّه فعل شيئاً فعلاً خياليّاً, فعل شيئاً أشبه بالأعاجيب - وهو فعلاً كذلك - ولكن كانت هناك أعاجيب أكبر من أعاجيب سيّدنا عمر, جاء أبو بكر رضوان الله عليه بماله كلّه قال: ما أبقيت لأهلك وعيالك يا أبا بكر, قال: أبقيت لهم الله ورسوله , ويا لها من قوّةٍ أسطوريّةٍ.. ومن شجاعةٍ خياليّةٍ! أن يتصدّق الإنسان وهو بكامل قواه العقليّة وبمحض اختياره وبمحض إرادته في لحظةٍ واحدةٍ هكذا بكلّ ما يملك على الإطلاق ويبقى صفر اليدين! ولا يسمح للشّيطان أن يدخل عليه ويقول له: يا هذا الآن تصير متسوّلاً, الآن تحتاج إلى الصّدقات من النّاس, اليد العليا خيرٌ من اليد السّفلى... أبقِ بعض مالك لتتصدّق به فيما بعد، لتشغّله وتعطي النّاس من أرباحه, لو جاءه الشّيطان بمثل هذه الأفكار لتذكّر قول الله تعالى: { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء } ( أي بالبخل ) { وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * } .
{ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ }: يحذّركم من الصّدقة, لأنّ نهاية الصّدقة الفقر من وجهة نظر الشّيطان, { وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء }: يأمركم بالبخل، { وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ}: في الآخرة { وَفَضْلاً }: في الدّنيا, يعوّضكم في الدّنيا ويغفر لكم في الآخرة, {وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * }.
وإن ننسَ لا ننسَ صنيع سيّدنا عثمان رضوان الله عليه في يوم تبوك حيث ضرب أروع الأمثلة، قال عليه الصّلاة والسّلام: [ مَنْ جَهّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ ] فجهّز عثمان جيش العسرة, أنفق من حرّ ماله ما كان كافياً لتجهيز ثلث الجيش, فتصوّر تجهيز جيش يحتاج إلى ميزانيّة دولة! عثمان بن عفّان بماله الخاصّ يجهّز ثلث الجيش الكبير المتوجّه إلى محاربة الرّومان!، يقول صلّى الله عليه وسلّم:
[ من يحفر بئر رومة فله الجنة ] أو [ من اشترى بئر رومة فله الجنة ] , فاشترى سيّدنا عثمان رضوان الله عليه بئر رومة من صاحبها اليهوديّ وجعلها وقفاً للمسلمين, لا يميّز نفسه عليهم؛ بل يستقي منها كما يستقون! دون زيادةٍ على أيّ واحدٍ منهم, جعلها صدقة لعامّة المسلمين.
كان للمال دورٌ إذاً في مواقف كثيرةٍ في دعوة النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام, حيث خدم المال الدّعوة الإسلاميّة, هذا لا يعني أنّ المال هو أهمّ شيءٍ في الدّعوة, لا أبداً, أهمّ شيءٍ بناء الأفكار وبناء النّفوس, ولكن يأتي المال في بعض المواقف فيمارس دوراً مسانداً للدّعوة الأساسيّة, دوراً داعماً للتّربيّة الفكريّة والنّفسيّة, [ نعم المال الصّالح للرّجل الصّالح ] و( نعم المعين على المروءة المال ).
ففي هذه الفتنة الّتي يمرّ المسلمون بها - حيث هم مستضعفون - يفترض أن تتكاتف كلّ الجهود, الجهد الفكريّ, الجهد العلميّ, والجهد الاجتماعيّ...
فما دور المال في مثل هذا؟
عندما نتكلّم عن دور المال نركّز كثيراً على أنّ هذا حلقةٌ من سلسلة وليست الحلقة الأولى, وعلى أنّنا تكلّمنا ماضياً على ما هو أهمّ وأجدى..
ولكنْ إن قال امرؤٌ: < طيّب > أنا أريد الآن أن أساهم في سبيل المال فما هو السّبيل؟ كيف أستطيع أن أصنع شيئاً وأن أقدم شيئاً للنّبيّ عليه الصّلاة والسّلام؟
سوف أذكر أفكاراً, كلّ فكرةٍ منها يمكن أن تبدأ صغيرة ويمكن أن تتطوّر في المستقبل لتكون نظاماً شاملاً, نظاماً كبيراً جدّاً, ويمكن أن تتحوّل إلى هيئاتٍ ومنظّماتٍ وجمعيّاتٍ ضخمةٍ لها عظيم الأثر وإن كانت البداية صغيرة:
وجهٌ من الأوجه الّتي يمكن أن ينفق المال فيها: نشر الكتاب الّذي يعرّف بالنّبيّ عليه الصّلاة والسّلام, تكلّمنا عن أهميّة الكتاب في التّعريف بسيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, وقلنا إنّ من المفيد لكلّ واحد منّا أن يتخذ الكتاب هديّةً له لكلّ من يحبّ، وهذا يختلف على حسب الإمكانيّات, هناك امرؤٌ عنده معارف كثر ولكنْ ليس عنده مال كثير.., هناك آخرون عندهم مالٌ كثير فيمكن أن يسخّروا هذا المال لخدمة هذا الهدف, الكتاب يمكن أن يُشترى بكميّات كبيرة وأن يُخصّص للتّوزيع على من يرغب أن يحصل عليه لنفسه أو لغيره, طبعاً عندما يكون الجهد كبيراً على هذا المستوى يُفترض أن يكون بمشورةٍ من أحد العلماء الموثوقين لتخيّر الموضوع المناسب للكتاب, وربّما يُؤلّف كتابٌ خاصٌّ من أجل هذا الغرض، من أجل التّوزيع، وهذا ما سنأتي عليه بعد قليل.
إذاً يُمكن أن تُوضع نسبةٌ من المال المنفق في سبيل الله وفي سبيل نصرة نبيّه عليه الصّلاة والسّلام, لشراء كميّاتٍ من الكتاب التّعريفيّ بسيّدنا رسول الله عليه الصّلاة والسّلام.
ماذا يصنع بهذا الكتاب؟ يوزّعه في حفلات الأعراس، عوضاً عن أمورٍ أخرى توزّع ممّا لا نفع فيه, كالقطع التّزيينيّة الّتي توضع في خزانة النّفائس والتّحف وتبقى للذّكرى الّتي ليس فيها فائدة, أو كالتّماثيل الّتي يُحرّم أصلاً وضعها في البيت, فيكون الإثم على من وضعها في البيت وعلى صاحب العرس الّذي وزّعها في عرسه.
من الضّيافة المفيدة جدّاً في الأعراس وفي عقود النّكاح: ( الكتاب ), ولو نظرنا إلى ما يُنفق في الأعراس, لرأينا أن شراء كميّةٍ كبيرةٍ من كتابٍ نافعٍ في هذا المجال لن يكلّف صاحب العرس كلفةً زائدةً مقارنةً بالأموال الطّائلة الّتي يُنفقها كثيرون على حفلات أعراسهم الباذخة المترفة...
من المفيد أن يوزّع الكتاب في مناسبات الولادات, إذا وُلد لأحدنا مولود - في الغالب - يحتفي بهذه المناسبة، ويأتي بضيافةٍ مخصوصةٍ, والبعض صار أيضاً يُوزِّع ما يُوزَّع في الأعراس من قطعٍ أشبه بالتّحف, فمن المفيد أن تكون المادّة الموزّعة أيضاً كتاباً يُعرّف بالنّبيّ عليه الصّلاة والسّلام.
حفلات النّجاح في السّنوات الدّراسيّة من المفيد أن يكون الكتاب هو هديّة هذا النّاجح وهديّة أهل هذا النّاجح للحضور المدعوّين إلى هذه الحفلة.
إذاً ينبغي أن نستغلّ كلّ مناسبةٍ لإهداء الكتاب.
< طيّب > يمكن أن لا ننتظر أن تأتي المناسبة, في الحالة الطّبيعيّة الواحد منّا يدعو أقاربه لزيارته, يدعوهم إلى طعام غداء, من المفيد وهو يضيّفهم طعاماً طيّباً وفواكه لذيذةً وربّما حلويّات فاخرة وربّما قطع حلوى من شوكولاته وسكاكر وغير ذلك, من المفيد أن يجعل الكتاب هديّةً من هداياه, وهذا أمر مُستغرب, ولكن كثيرون ينفقون في ولائمهم وفي دعوات الغداء عندهم أضعاف ما يمكن أن يتكلّف به ثمن كتاب، ستكون ظاهرةً جذّابةً جداً.. فإن كانوا سيذكرون له لمدّة يومين أو ثلاثة أيّام طعامه الطّيّب ويقولون: جزاه الله خيراً, والله لقد أمتعنا بهذا الطّعام، بهذا الشّواء الفاخر, وبهذه ( المحاشيّ ) اللّذيذة، وبهذه ( الكُبب ) الفاخرة, فإنّهم سيذكرون هذا الكتاب سنوات طوالاً، سوف يفاجؤون لأنّها ضيافةٌ غير معتادة..
هذا ليس مطلوباً من كلّ واحد، ولكن أقول إن كان الواحد موسراً وأراد أن يخصّص شيئاً من ماله لهذا الهدف فهذا سبيل واضح وسهل أن يخصّص جزءً ممّا ينفق - وهذا ليس بالشّيء الصّعب - لإهداء الكتاب بكميّاتٍ كبيرةٍ.
في الأعياد كثيرون منّا يتفنّنون في ضيافات الأعياد... الحلويّات معظمنا يضيّفها في العيد وإن كانت أسعار الحلويّات تتفاوت, < طيّب > هذا الّذي يشتري أنواعاً من الحلويّات قد يصل سعر الكيلوغرام منها إلى سبع مئة أو ثمان مئة ليرة سوريّة وأكثر من ذلك ربّما.. ويهتمّ بالفواكه ويهتمّ بأشكال الضّيافات.. ماذا عليه لو أنّه اهتمّ بإهداء كتابٍ نافعٍ جعله ضيافةً من ضيافات العيد؟
طبعاً الكتاب النّافع قد لا تكون كلفته كبيرةً جدّاً, قد يكون كتيّباً ولكنّه يثير فكرة ويحرك عاطفةً عند الحضور، ويفيدهم بمعلومة - ولو معلومةٍ واحدةٍ - و لا يخلو الكتاب مهما صَغُر حجمه عن كمٍّ من المعلومات كبير ينفع قارئه وينفع مهديه، وشعارنا في ذلك: [ الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ ]
إذاً استغلال كل المناسبات لإهداء الكتاب..
< طيّب > إذا كان موسراً أكثر من هذا بكثير، وفعل كلّ هذه الأمور ولا يزال عنده إمكانيّةٌ لإنفاق مالٍ زائدٍ فإنّ هناك سبلاً أخرى, إذاً السّبيل الأوّل إهداء الكتاب ونشره, هذه الفكرة ينبغي أن يطبّقها المستطيع منّا وأن ينشرها - إن كان مستطيعاً أو غير مستطيع - ويوصلها إلى من يستطيع بقدر المستطاع.
السّبيل الثّاني: نشر وسائل التّعليم الأخرى سوى الكتاب, كشريط المسجّلة والقرص الحاسوبيّ, فإنّ هذه قد تروق للنّاس كثيراً ولها مميّزاتٌ على الكتاب وإن كان للكتاب مميّزاتٌ عليها, الكتاب يميّزه عن الأشرطة والأقراص: أنّه لا يحتاج إلى جهازٍ لتشغيله, ولا يحتاج إلى كهرباء, ولا يحتاج مكان معينٍ يوجد فيه الجهاز, بل يستطيع المرء أن يتناوله في أيّ وقتٍ وفي أيّ ظرفٍ وأن يأخذه معه إذا سافر وأن يصطحبه معه في كلّ رحلاته
أعزُّ مكانٍ في الدُّنى سرجُ سابحٍ * وخيرُ جليسٍ في الزّمانِ كتابُ
ولكن في المقابل يميّز الأشرطة والأقراص على الكتاب أشياءٌ أُخر، منها أنّها موجّةٌ لكلّ النّاس بمن في ذلك الأمّيّون الّذين لا يحسنون القراءة والكتابة فإنّهم يسمعون, ثانياً إنّ السّماع قد يدخل المعلومة إلى النّفس بطريقةٍ أيسر وأقرب إلى القلب ويعطي موضوعاً متكاملاً؛ بخلاف الكتاب الّذي يعطي موضوعاتٍ شتّى، حيث يحتاج القارئ إلى الانتقاء أو أن يقرأ الكتاب من أوّله إلى آخره إن تيسر له الوقت، أمّا الدّرس أو المحاضرة الّذي يسجّل في قرصٍ أو في شريط فإنّها تعطي موضوعاً متكاملاً مغلقاً من أوله إلى آخره، حيث يخرج المستمع بنتيجةٍ متكاملةٍ في مسارٍ ما, يميّز الشّريط والقرص أيضاً سهولة حمله, سهوله تناوله حيث إنّه يوضع في الجيب, ويميّزه أيضاً رخص ثمنه حيث يمكن أن يشتغل في توزيعه حتّى غير الموسرين، لأنّ كلفته ليست بالكبيرة, يعني الآن وصل سعر القرص إلى حدودٍ لم تكن تُتوقّع.. من سنوات كان القرص بخمس مئة أوستّ مئة ليرة, والآن صار القرص بخمس ليرات أو ستّ ليرات, فصار ثمن الكتاب الواحد يمكن أن يُشتَرى به عشرون أو ثلاثون قرصاً, وهذا يسّر كثيراً تناول المعلومات.
إذاً يمكن لصاحب المال الّذي يريد أن يضع ماله في خدمة النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام, أن ينتقي محاضراتٍ ودروساً تتكلّم عن شخص سيّدنا رسول الله عليه الصّلاة والسّلام, عن حياته, عن أخلاقه, وعن محاسنه وما أكثرَ محاسنَه, وعن فضائله وحياته كلُّها فضائل, ينتَقِيَ بعضاً من هذه الدّروس وبعضاً من هذه المحاضرات وينسخ منها نسخاً كثيرةً ويجعلُ هذه النّسخ ضيافةً أيضاً كما جعل الكتاب ضيافة, وإن كان الكتاب يكلِّفُ أكثر, فيمكن أن يجعل هذه الأشرطة أو هذه الأقراص ضيافته في عقد نكاحه.. كما فعل بعض الإخوة فاجأني حضرت عقد نكاحه, ففتحت الضّيافة فوجدت فيها بعض الدّروس الّتي أعرفها في أقراص وفي أشرطة، جعلها ضيافة عقد نكاحه.
وآخرون جعلوها ضيافة أعراسهم, وهذا متيسِّر, يعني أرخص من قطعة شوكولاتة, أرخص من قطعة الرّاحة, خمس ليرات أو ستّ ليرات يكلّف القرص الواحد.. ولو وضع له غلافا جميلاً كم يكلّف؟ عشر ليرات.. في المقابل كم أعطى من نفعٍ لهذا المستمع الّذي سوف ينتفع وينفع بهذا خلقاً كثيرين.
يمكن أن يجعلها ضيافته في مناسبة ولادة مولودٍ له...
أن يجعلها ضيافته في مناسبة نجاح ولدٍ من أولاده...
أن يجعلها ضيافته في العيد, وكثيرٌ من الإخوة أخذوا بهذا الأمر وجعلوا ضيافتهم في الأعياد الدُّروس النّافعة والمحاضرات المفيدة الّتي فيها التّعريف بأحكام الإسلام وبسيِّدنا رسول الله عليه الصّلاة والسّلام...
ويمكن أن يجعلها مناسبةً للضّيافة من غير مناسبة, أي من غير عيدٍ ومن غير احتفال, كلّما جاءه ضيف زائر, كما أنّه يضيِّفه القهوة والشّاي وربّما الحلويّات والفواكه.. يضيِّفه قرصاً نافعاً يفيده.
ويمكن أن توجَّه هذه الأقراص أيضاً باتجاهٍ آخر ( الأقراص والأشرطة ), اصطحب معك مجموعةً منها وكلّما صعدت في وسيلة نقلٍ عامَّة ( في سيَّارة أجرة أو سيّارة خدمة ) أهدِ هذا السّائق خاصَّةً إن كان محبَّاً لاستماع المسجّلة أو الإذاعة ويستمع إلى إذاعاتٍ فاسدةٍ تروِّج للأغانيّ الهابطة.. فأعطه بديلاً, قل له: خذ واستمع, أهده هذه الهديّة, فبهذا تكون قد نفعت وأفدت فائدةً عاجلةً وفائدةً آجلةً.
الفائدة العاجلة: جعلته يغلق هذه الجهاز ويوفّر على الجالسين آثاماً كثيرةً كانوا يكسبونها بسماعهم للأغانيّ.
والفائدة الآجلة: أنّك تركت معه زاداً طيِّباً قد يكون يسمعه لأوّل مرة في حياته, وقد يكون له أثرٌ في تغيير حياته وتغيير منهاجه, فيكون ذلك في صحيفة أعمالك, [ من دعا إلى هدىً، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ] .
السّبيل الثّالث الّذي يمكن خدمة النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام فيه بالمال: هو إنفاق المال على إنشاء المواقع الإلكترونيّة في الشّبكة العنكبوتيّة وتخصيصها لخدمة النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام, وكما تعلمون إنشاء المواقع الإلكترونيّة ليس له كلفةٌ كبيرة, ولكن عندما يحتاج الموقع إلى تكبيرٍ وتوسيع, ويحتاج إلى إدخال موادَّ كثيرةٍ إليه فإنّه يحتاج إلى مساحةٍ ضخمةٍ؛ وهذا يقتضي إنفاق مالٍ كبير, فالمواقع الكبيرة كلفتها كبيرةٌ في الغالب, وإذا لم يكن هناك دعمٌ ماليٌّ لهذه المواقع فإنّها في الغالب لن تستطيع التّوسع وربّما تتوقّف في يومٍ من الأيام, والمواقع الدّعويّة الإسلاميّة كلّها مواقع مجانيّة, بخلاف المواقع التّجاريّة الّتي تستفيد من اتجاهاتٍ أخرى, بعضها يستفيد بأنّ الدّخول على هذه المواقع يحتاج إلى تسجيلٍ واشتراك, يحتاج إلى دفع مال من خلال بطاقة الائتمان < فيزا كارد > أو غيرها, كمواقع المجلاّت العلميّة التّخصصيّة أو المواقع التّجاريّة التّخصصيّة؛ فإن الدّخول على محتوياتها الكاملة لا يمكن إلا بدفع مال, وبهذا هي مواقع ربحيّة, يغطّون نفقاتهم ويربحون مبالغ طائلةً من وراء الاشتراكات, مواقع أخرى تغطّي نفقاتها بالدّعايات, وإذا اعتمد الموقع نظام الدّعايات والإعلانات فيه فإنّه قد يفقد رصانته وجدّيّته، وقد يضطرّ لوضع إعلاناتٍ ليس مقتنعاً بها، وقد يضع إعلاناتٍ لا يعلم إلام تدعو، وهذا الأمر فيه معضلاتٌ كثيرةٌ، ولهذا فالطّريقة الأفضل والأمثل لاستمرار هذه المواقع هي أن تُخصّص لها مبالغ، ويجوز أن تكون هذه المبالغ من زكاة المال، كيف تكون من زكاة المال؟ الله جلّ وعلا جعل لزّكاة المال مصارف ثمانية، ومن هذه المصارف: ( في سبيل الله )، وهذا شكلٌ من أشكال الجهاد في سبيل الله، الجهاد ليس فقط في المعارك في الحروب.. الجهاد له أشكالٌ كثيرةٌ من أهمّها جهاد الكلمة، فالإنفاق على هذه المواقع من زكاة المال جائز؛ وبالتّالي يمكن أن تُخصّص بعض نفقات أصحاب الأموال لإنشاء المواقع الإسلاميّة الّتي تُعرّف بالنّبيّ عليه الصّلاة والسّلام باللّغات المختلفة، والّتي يشرف عليها علماء موثوقون بحيث تكون المعلومة الّتي فيها معلومة موثوقة ليس فيها مغالطاتٌ ليس فيها تشويهٌ مقصود أو غير مقصود.
سبيل رابع من سبل خدمة النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام: الإنفاق على مؤلّفيّ الكتب، وهذا أمرٌ يعزب عن بال كثيرين، كثيرون يستطيعون أن يؤلّفوا ولكن يمنعهم من التّأليف أنّهم يسعون وراء لقمة العيش، والتّأليف يحتاج إلى تفرّغ، والتّفرّغ يحتاج أن يكون معه فائضٌ من المال ينفق منه خلال فترة تفرّغه على نفسه وعياله، فإذا لم يجد هذا الفائض فهو محتاج لأن يشتغل في عملٍ ما ليأكل ويطعم أولاده؛ وبالتّالي تبقى الأفكار الّتي في ذهنه حبيسةً في ذهنه ولا يستطيع تحويلها إلى كتاب نافع، يُفترض أن يُدعم هؤلاء المؤلّفون من قبل الحكومات المسلمة ومن قبل الشّعوب المسلمة وأن يُفرّغوا للعمل العلميّ ويكفوا كفايةً ماليّةً تامّةً بحيث لا يحتاجون إلى أن يحصّلوا المال بأنفسهم، يقول في ذلك الإمام الشّافعيّ رحمه الله ( لو كلّفت بصلة ما حللت مسألة ).
طبعاً هذا لا ينطبق على الجميع، قد يكون هؤلاء المؤلّفون أو المفكّرون ممّن يستطيعون الجمع بين الأمرين ( عنده عملٌ تجاريٌّ لا يستغرق منه وقتاً طويلاً، ويفرّغ الوقت الباقي للعلم )، كما كان حال الإمام أبي حنيفة رحمه الله الّذي كان يتاجر في وقتٍ ويَتعلّم ويُعلّم في وقت آخر، ولكن الآن صعوبة الحياة جعلت هذا الأمر متعذراً؛ فمن المفيد لصاحب المال إذا عرف من يمكن وجود هذه الكفاءة فيه أن يعرض عليه هذا العرض، يقول له: ما رأيك أن نتشارك أنا وأنت.. إذا كان إنسان يمتلك موهبةً تجاريّةً في مجالٍ ما يأتي صاحب المال ( صاحب رأس المال ) يقول له: نتشارك منّي رأس المال ومنك الجهد والأرباح مناصفة.. والآن يمكن أن يتشاركا بالطّريقة نفسها يقول: أعطيك رأس المال، والاجتهاد منك وأرباح هذا الكتاب ( أجره وثوابه عند الله ) مناصفةً بيني وبينك...
هل فعلاً يكون الأجر مناصفة؟ لا هنا الأمر يختلف، هذه تجارة مع الله كلٌّ منهما يأخذ الأجر كاملاً لا ينقص أجر أيّ واحدٍ منهما، ولا بأس أن يكون هذا حتّى الأرباح الدّنيويّة... هذا الكتاب سُيباع ربّما، وربّما يكون فيه ربحٌ ولو كان يسيراً فيتّفقان على أن تكون هذه خطوةً استثماريّةً؛ ولكن ينبغي أن يتذكّر المستثمر هنا أنّ سوق الكتاب ليست رائجةً في بلادنا وأنّه قد لا يربح؛ لذلك يجب أن يضع في حسبانه الأجر والثّواب فقط في الدّرجة الأولى، يقول له: في عملك الّذي تعمل فيه كم تحصل في الشّهر؟ عشرة آلاف؟ < طيّب > عطّل عن هذا العمل سوف أعطيك عشرة آلاف في الشّهر لتتفرّغ فقط للتّأليف والكتابة وتنجز كتباً تنفع بها المسلمين...
هذه الفكرة لو أنّها خطرت ببالنا لأثمرت كثيراً...: ( توقّف عن العمل، واشتغل في مجالك العلميّ والفكريّ، وأنا أدعمك بما تحتاج وأعطيك راتبك الّذي كنت تحصله نفسه ).
هذا الجهد كان يفعله الخلفاء ويفعله الأمراء وتفعله جهاتٌ منظّمةٌ في السّابق، الآن يستطيع أفراد النّاس أن يصنعوه، يستطيع كلّ واحدٍ من أصحاب الأموال أن يصنع مثل ذلك؛ إذ يتخير بعض طلاّب العلم المجتهدين الّذين يتوسّم فيهم الإمكانيّات المتميّزة وينفق علهم لخدمتهم؛ فإن لم ييسّر الله له أن يسلك طريق العلم... فليخدم من سلكوا هذا الطّريق ولينفق عليهم حتّى يشاركهم في أجورهم وفي ثوابهم.
سبيلٌ آخر يشبه هذا السّبيل: الإنفاق على المترجمين، وهذا السّبيل أيسر وأنفع لماذا؟ لأنّ الكتب المؤلّفة باللّغة العربيّة كثيرةٌ وقد استوعبت معظم الموضوعات المهمّة؛ ولكن نحتاج الآن أن نخاطب الآخرين بلغاتهم ( نحتاج إلى مترجمين ) والمشكلة: أنّ معظم من يدرسون اللّغات الأجنبيّة لا يكونون في الأصل أصحاب هدفٍ إيمانيٍّ موجّه، ومعظم الملتزمين لا يهتمّون بدراسة هذه اللّغات... هناك إشكاليّةٌ في هذا الأمر.
الحلّ أن نشجّع الملتزمين على دراسة اللّغات الأجنبيّة بحيث يتقن الواحد منهم أربع لغاتٍ أو خمس لغاتٍ على الأقلّ، وهذا أمرٌ ليس بالصّعب، وفي الوقت نفسه أن نُخصّص جزءً من أموالنا لمن أتقنوا شيئاً من هذه اللّغات، سمعنا أنّ هذا الشّابّ الجالس بيننا متقنٌ للّغة الألمانيّة، نقول له: ما رأيك أن تتاجر مع الله تعالى؟ يقول: أنا مستعدّ. نقول: خذ هذا الكتاب اللّطيف الجميل الّذي يتكلّم عن رسول الله عليه الصّلاة والسّلام ويعرّف بفضائله ومزاياه العظيمة - صلوات الله وسلامه عليه - وترجمه لنا إلى اللّغة الألمانيّة مثلا، يقول: أنا مستعدّ.
قد يفعل ذلك ابتغاء وجه الله، ولكن كما تكلّمنا في النّوع السّابق قد يكون هذا الشّابّ صاحب عيال، صاحب مسؤوليّات، وعنده عمل... ولا يستطيع أن يفرّغ أيّ جزءٍ من وقته لهذا العمل، علينا أن نراعي ذلك نقول: له خصّص لنا جزءً من وقتك وقلّل عملك الدّنيويّ وسوف نعطيك الرّاتب الّذي تريد، أو نعطيك مبلغاً مقطوعاً على ترجمة هذا الكتاب كم تريد؟ وأنت حرّ.. ترجمه في الوقت الّذي تشاء، فيُخصّص جزءٌ من أموال أصحاب الأموال لخدمة المترجمين الّذين يمكن أن يحوّلوا كثيراً من الكتب النّافعة والمحاضرات والدّروس إلى اللّغات الأخرى، وبعد ذلك يأتي دور نشرها الّذي تكلّمنا عنه في التّشجيع على طباعة الكتب النّافعة الّتي تُعرّف برسول الله عليه الصّلاة والسّلام.
مثل هذه الأمور قد تبدأ بأفكارٍ صغيرة، ولكن بعد أن تنتشر هذه الأفكار ويسمعها كثيرون ويبدأ البعض بتطبيقها.. أنا واثقٌ أنّ الفكرة الصّغيرة إذا استمرّت سوف تصير مثل كرة الثّلج المتدحرجة كلّما تدحرجت أكثر كَبُرت أكثر.. وهكذا تبدأ هذه الفكرة صغيرةً، ولكنْ تتطوّر شيئاً فشيئاً.. قد تتحول كلّ فكرةٍ من هذه الأفكار إلى هيئةٍ عالميّةٍ إلى تنظيمٍ ثقافيٍّ كبير إلى مؤسّسةٍ علميّةٍ تساهم في الحركة الثّقافيّة العالميّة بشكلٍ ملحوظ وتكون مخصّصةً لنصرة النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، وتتّخذ لها موقعاً في العالم، وخاصّةً في العالم الغربي الّذي يجهل النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام!! ويا أسفا عليه لأنّه يجهل أعظم الخلق والمنقذ الأكبر للبشريّة..
فهذه الأفكار إذاً تحتاج إلى تفعيل وتحتاج إلى بداية، وبعد أن نشتغل في هذه الأفكار ونتشاور.. ويبدأ كلّ واحدٍ يُدلي بفكرةٍ تتعلّق بهذه الأفكار، فكرةٌ منّي وأفكارٌ منكم.. تتحوّل الفكرة الواحدة من كلّ واحدٍ منّا إلى مجموعةٍ كبيرةٍ من الأفكار، بعض الأفكار تغربل لا وزن لها مثلاً، ولكن يُؤجَر صاحبها لأنّه اقترحها ولأنّه أجهد نفسه.. ولكنْ ليس بالضّرورة أن كلّ فكرةٍ تخطر ببالك قابلةٌ للتّنفيذ وأن كلّ فكرةٍ تخطر ببالك تكون صحيحة، ولكن لك الأجر والثّواب على أنّك فكّرت وعلى أنّك اقترحت.
فكرةٌ منك وفكرة منّي وفكرةٌ من الثّالث والرّابع... فلتكن ألف فكرة، ولتلغَ منها تسع مئة فكرة ولتبقَ مئة فكرةٍ فقط.. مئة فكرة ترتّب وتنظّم بطريقة هندسيّة جميلة حتّى تتحوّل بعد ذلك الأفكار المتفرّقة إلى فكرٍ متكاملٍ في مجالٍ من المجالات؛ فيمكن عندها أن تتحوّل إلى واقع عمليٍّ ملموسٍ نافع، الجهود الفرديّة المتناثرة لا تؤتي ثمرة، والغرب إنّما وصل ما وصل إليه من التّقدم باعتماده على العمل الجماعيّ ( عمل الفريق ) وسيّدنا رسول الله عليه الصّلاة والسّلام من أعظم من علّمنا عمل الفريق، ولي كتابٌ - أسأل الله أن يتيسّر نشره في مدّةٍ قريبة - كتابٌ باللّغة الإنكليزيّة حول عمل الفريق في حياة النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، كيف أنّه عليه الصّلاة والسّلام هو إمام من علّم النّاس كيف يشتغلون شغلاً جماعيّاً ويتجنّبون العمل الفرديّ المتفرّق الّذي يضيع ولا يبقى له أثر...
فنريد الآن أن نجرّب هذا المنهج النّبويّ العمليّ النّاجح الّذي من شأنه أن يبدأ نهضة المسلمين ويعلّمهم كيف يقتفون سُنن المصطفى عليه الصّلاة والسّلام.
هذه سبلٌ يمكن أن يخدم المال فيها.. وليذكرْ من يضنّ بماله على أوجه خدمة الإسلام المختلفة ليذكرْ قول النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام: [ لا يؤمن أحدكم حتّى أكونَ أحبّ إليه من والده وولده والنّاس أجمعين ] ومن نفسه الّتي بين جنبيه، وليذكر تحذيراً شديداً أطلقه الله جلّ وعلا في كتابه لكلّ من فضّل الدّنيا على الله والرّسول - صلّى الله عليه وسلّم - فقال: { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ * } .
وليكن شعارنا: أموال المسلمين في خدمة نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم، أموال المسلمين في خدمة إمامهم صلّى الله عليه وسلّم، أموال المسلمين في خدمة الرّحمة المهداة إليهم وإلى العالمين...
نسأل الله جلّ وعلا أن يعيننا على طاعته، وأن يجعلنا في زمرة المقبولين المرضيّين، إنّه خير مسؤولٍ وأكرم مجيبٍ، والحمد لله ربّ العالمين.
اللّهمّ إنّا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وعملاً صالحاً متقبّلاً، اللّهمّ طهّر قلوبنا من النّفاق، وأعمالنا من الرّياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة اللّهمّ إنّا نسألك حبّك، وحبّ من يحبّك، وحبّ العمل الّذي يقرّبنا إلى حبّك، وصلِّ اللّهمّ على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.

الملفات الصوتية
الملف الأول
أرسل هذه الصفحة إلى صديق
اسمك
بريدك الإلكتروني
بريد صديقك
رسالة مختصرة


المواضيع المختارة
مختارات

[حسن الظن بالله]

حسن الظن بالله يعني أن يعمل العبد عملاً صالحاً ثم يرجو قبوله من الله تعالى ، وأن يتوب العبد إلى الله تعالى من ذنب عمله ثم يرجو قبول الله تعالى لتوبته ، حسن الظن بالله هو ذاك الظن الجميل الذي يأتي بعد الفعل الجميل.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام : {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى.}
قال سبحانه في الحديث القدسي :{ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني } أنا عند ظن عبدي بي فإذا ظننت أنه يرحمك وأخذت بأسباب الرحمة فسوف يرحمك ، وأما إن يئست من رحمته وقصرت في طلب أسبابها فإنه لن يعطيك هذه الرحمة لأنك حكمت على نفسك والله تعالى سيحكم عليك بما حكمت أنت على نفسك .