الخطب > شبهات حول المرأة 1
شبهات حول المرأة 1

كانت حقوق المرأة ومكانتها في الإسلام نقطةً من النّقاط الّتي ركّزوا عليها وأكثروا الكلام فيها، وهم يظنّون أنّهم تناولوا موضوع المرأة من منطلق الضّعف، بينما المرأة في الإسلام الكلام عنها كلامٌ عن قوة، وكلامٌ عن فضلٍ، وكلامٌ عن نورٍ وإشراق, ظنّوا أنّهم أصابوا الإسلام في مقتل؛ فقالوا: "المرأة عندكم مضطهدةٌ مظلومةٌ، المرأة عندكم مواطنٌ من الدّرجة الثّانية، إنسانٌ دون الإنسان الّذي هو الرّجل, المرأة عندكم عقلها صغير ودينها قليل وشهادتها بنصف شهادة الرّجل وميراثها بنصف ميراث الرّجل

بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله، الحمد لله ثمّ الحمد لله، الحمد لله نحمده، نستعين به نستهديه نسترشده، نتوب إليه نتوكّل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، { مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيَّاً مُرْشِدَاً * } ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، معزّ المؤمنين وناصرهم، ومخزِ الملحدين وقاهرهم { خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ، وأشهد أنّ سيّدنا وحبيبنا وقائدنا وقدوتنا محمّداً عبده ورسوله، وصفيّه وخليله، خير نبيٍّ اجتباه، وهدىً ورحمةً للعالمين أرسله
بلغ العُـلا بكمالـه كشف الدّجى بجمالـه
حسُنت جميع خصاله صلّـوا عليـه وآلـه
اللّهمّ صلِّ على سيّدنا محمّدٍ وآله وصحبه، وارضَ عن خلفائه الأربعة الميامين، سادتنا أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعليّ، وعن سبطيه الأكرمين أبي محمّدٍ الحسن، وأبي عبد الله الحسين، وعن أمّهما فاطمة الزّهرا، وجدّتهما خديجة الكبرى، وعن عائشة أمّ المؤمنين، وعن جميع الآل والصّحابة، والأهل والأزواج والقرابة، والتّابعين، وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين، وعنّا معهم برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
{ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * } .
أمّا بعد:
أيّها الإخوة المؤمنون:
حرباً ضروساً كانت تلك الحرب الّتي شنّها أعداء الإسلام على هذا الدّين الحقّ, معركةً شعواء لا هوادة فيها استخدموا فيها كلّ أسلحتهم، فتارةً يعملون بالمنطق، وتارةً يعملون بلغة الواقع، وتارةً يعملون بلغة التّاريخ، وهم لا يألون جهداً في اكتشاف نقاطٍ يظنّونها نقاط ضعف في الإسلام ولا ضعف فيه، وهم لا يدّخرون قوةً في الدّخول على الإسلام من ثغراتٍ فيه وليس فيه ثغرات، إنّما اشتبه الأمر لديهم فشبّهوا ذلك الأمر على ضعاف السّامعين وعلى ضعاف العقول, كثُرت أسلحتهم وكانت المرأة واحدةً من تلك الأسلحة، وكانت حقوق المرأة ومكانتها في الإسلام نقطةً من النّقاط الّتي ركّزوا عليها وأكثروا الكلام فيها، وهم يظنّون أنّهم تناولوا موضوع المرأة من منطلق الضّعف، بينما المرأة في الإسلام الكلام عنها كلامٌ عن قوة، وكلامٌ عن فضلٍ، وكلامٌ عن نورٍ وإشراق, ظنّوا أنّهم أصابوا الإسلام في مقتل؛ فقالوا: "المرأة عندكم مضطهدةٌ مظلومةٌ، المرأة عندكم مواطنٌ من الدّرجة الثّانية، إنسانٌ دون الإنسان الّذي هو الرّجل, المرأة عندكم عقلها صغير ودينها قليل وشهادتها بنصف شهادة الرّجل وميراثها بنصف ميراث الرّجل, الرّجل مُتَحَكِّمٌ والمرأة مُتَحَكَّمٌ بها، الرّجل له أن يطلِّق والمرأة ليس لها أن تطلِّق, الرّجل له أن يتزوج أكثر من امرأة والمرأة ليس لها أن تتزوج أكثر من رجل، المرأة حبيسةٌ في بيتها، حبيسةٌ داخل ملابسٍ ثخينةٍ غليظةٍ لا يستطيع الرّجال أن ينفذون من خلالها إليها, المرأة عندكم عورة عيبٌ أن تكشفوها، المرأة عندكم شرٌّ مستطير، لذلك فقد عاملتم المرأة معاملة انتقاصٍ ودونيّة".
وهم إذ تكلّموا عمّا ظنّوه مثالب في الإسلام فيما يتعلق بالمرأة إنّما تكلّموا عن مناقب لا مثالب وتكلّموا عن محامد ومحاسن لا عن مذامّ ومساوئ، ولكنْ أساؤوا الفهم أو أساؤوا التّفهم أحد اثنين، الّذي يتكلّم عن مثل هذه النّقاط إنّما هو أحد اثنين إمّا أنّه جهل مقاصد الإسلام ولم يعلم أحْكَام الحِكَم وحِكَم الأحْكَام، فأخذ الحُكم دون أن يعلم حكمته وإمّا أنّه عالمٌ مدقّقٌ يعلم الحكمة ولكنّه يشنّ حرباً على الإسلام لا منطق يسندها ولا إخلاص يدفعها، إنّما هو يريد أنْ يحارب، مع أنّه يعلم أنّ الإسلام كامل هو يريد أنْ يحاربه، ومع أنّه يعلم أنْ ليس في الإسلام مثلبةٌ أو نقيصة فهو يريد أنْ يحاربه، ومع أنّه يعلم أنّه يتكلّم عن إيجابيّات لا عن سلبيّات فهو يريد أنْ يحارب الإسلام بكلّ ما فيه لغايةٍ نفسيّةٍ دنيئةٍ، أو لحربٍ أمميّةٍ عريضةٍ تسمّى بصراع الحضارات، المرأة إخوتي مرّت خلال تاريخها بمراحل كانت في أحسنها قريبةً من الرّجل، وكانت في أسوئها دون الحيوان والبهيمة، مرّت بمراحل طويلةٍ سُلِبت فيها حقوقها واغتُصِبت فيها تلك المكاسب الّتي أعطاها الله إيَّاها؛ فإذا بالبشر مخلوقين يغتصبون المرأة حقوقها الّتي أعطاها إيّاها خالقها، خلق الله الرّجل والمرأة من ماءٍ واحدٍ، خلق الله الرّجل والمرأة في رحمٍ واحدٍ، أخرج الله الرّجل والمرأة من سبيلٍ واحدٍ، ثمّ ربّى الرّجل والمرأة تربيةً واحدةً، فكلا المخلوقَين عاش حياةً مُشْبِهةً لحياة الآخر، وما تميّز واحدٌ منهما على الآخر لا بأصلٍ ولا بخلقةٍ ولا بتربيةٍ، إنّما البشر هم الّذين ميّزوا وفاضلوا، كانت المرأة في العصور الغابرة بهيمةً أو دون البهيمة، هذا ما قالته الأمم المتحضرة لا الأمم البدائيّة فقط، كانت المرأة عند بعضهم وسيلةً للتّلذّذ والتّشهي لا أكثر، لذلك فقد كانوا يتّخذون من المرأة سلعةً تباع وتُشرى، بل إنّ الرّجل قد يجعل المرأة الّتي في حِجْره كبنتٍ أو أختٍ وربّما زوجتهٍ، قد يجعلها ضيافةً يضفها إلى الزّائرين، من باب القِرى يعطيهم امرأةً يتسلّون بها إلى أنْ ينصرفوا عنه، كانت المرأة تُعَار، وكانت المرأة تُبَاع، وكانت المرأة تُغتَصَب وتُسْبَى وتُأسَر، كلّ ذلك عانت المرأة منه على مرّ العصور، ثمّ الآن يزعمون أنّهم يحضّرونها بينما هم يعودون بها إلى العهود الغابرة، فهم يجعلون المرأة وسيلة لتحقيق اللّذّة لا أكثر، ففي النّظريّة الغربيّة للبناء الاجتماعيّ: "لا بدّ من تحقيق رغائب النّاس بشكلٍ عام، فكما أنّه لا بدّ من وجود مطاعم عامّة لتشبع حاجات البطن للزّائرين الغرباء وللّذين لا يستطيعون أنْ يطبخوا في بيوتهم، وكما أنّه لا بدّ من تهيئة دورات مياهٍ عامّةٍ حتّى يخلّي الإنسان فضلاته فيها إذا كان عابر سبيلٍ وليس له بيتٌ يأوي إليه، فكذلك يقولون لا بدّ من أن تُهيّأ بيوتٌ عامّةٌ للدّعارة حتّى يتهيّأ للزّائر الغريب ولعابر السّبيل أن يشبع شهوة الفرج عنده، وحتّى يتهيّأ لمن لم يكن قادراً على أن يتحمّل مسؤوليّة الأسرة مسؤوليّة البناء الاجتماعي الصّغير، حتّى يحقّق شهوته ولذته"...!!
هكذا نظريّتهم في التّعامل مع المرأة، وليست إلا نسخةً معدلةً مطورةً عن المرأة في الحياة البدائيّة، حيث كانت المرأة ليست أكثر من وسيلةٍ لتحقيق اللّذّة والشّهوة، كانت المرأة دون الرّجل حتماً، ولربّما نزلت عن البهيمة كما قلت.
فها هو مجتمعٌ فلسفيٌ عتيدٌ يعقد في مهد الفلسفة في بلاد الإغريق يتباحثون ويتدارسون حول حقيقة المرأة: ( ما هي المرأة؟ ) يقولون: ما هي المرأة؟ ولا يقولون من هي المرأة؟ لأنّ المرأة عندهم ملحقةٌ بغير العاقل بالجمادات والدّواب والبهائم، طرحوا تساؤلات:
"هل المرأة كائنٌ حيٌّ أم ليست كائناً حيّاً؟ ثمّ إنْ كانت كائناً حيّاً مخلوقاً فهل هي ذات روح أم ليست ذات روح؟ ثمّ إن كانت مخلوقاً ذات روح فهل هي من سويّة الإنسان أم دون سويّة الإنسان؟"
وبعد مداولاتٍ ومباحثاتٍ خرجوا بنتيجةٍ كانت لصالح المرأة قياساً بحال المرأة في ذلك الزّمان، لقد اكتشفوا بعد لأيٍ وجهدٍ جهيدٍ أنّ: "المرأة مخلوق، وأنّ هذا المخلوق ذو روح، ولكنّه ليس كالإنسان إنّما هو دون الإنسان - ويقصدون بالإنسان الرّجل - إنّما خلق الله هذا المخلوق ذا الرّوح فقط تسخيراً من أجل الرّجل ومن أجل إسعاد الرّجل ومن أجل خدمة الرّجل ومن أجل حاجات الرّجل".
لم يكن هذا مقصورا على الزّمان القديم، إنّما هذه فرنسا في القرن السّادس للميلاد في أواخره، في سنة خمسمئةٍ وستٍّ وثمانين فيما أذكر، يُجمع فيها مجمع دينيّ لنصارى فرنسا قساوسة وأساقفة ورهباناً، عقد ذلك المجمع الشّهير بالمجمع الدّيني الفرنسيّ، يتباحثون حول حقيقة المرأة حتّى قالوا: "المرأة إنسانٌ مخلوقٌ من أجل خدمة الرّجل"... هذه هي الغاية عندهم الّتي أدّت إلى خلق المرأة.
هذا من حيث التّفكير النّظريّ، وأمّا من النّاحية العمليّة فبحث في المرأة في شتّى المجتمعات المتخلّف منها والمتحضّر، المتأخّر والمتقدّم، تجد المرأة قد خلّفها ركب الحضارة والتّقدم، فهؤلاء الفرس وأولئك الرّوم الدّولتان العظميان قبيل الإسلام و اللّتان قد بلغتا في المدنيّة المادّيّة كلّ مبلغ، لم تكن المرأة واحدةً من عناصر تلك الحضارة، إنّما كانت المرأة في تلك الحضارة مسحوقةً لا وجود لها ولا حقوق.
فأمّا في بلاد الرّوم فإنّ المرأة جاريةٌ تارةً، عاهرةٌ تارةً، راقصةٌ تارةً، وأكثر من ذلك لا تبتغي المرأة، المرأة لا تحلم بأكثر من ذلك، هي راقصةٌ في دور اللّهو، عاهرةٌ وكان العهر منظّماً مقنّناً، جاريةٌ يختّص ذلك بالأغنياء الّذين قد يشتري أحدهم عشرات بل ومئات الجواري، المرأة سلعةٌ تُباع وتُشرى، المرأة أشبه بالدّواب الّتي تُورث.
وأمّا في بلاد الفرس فلقد كان الحال أقسى وأشدّ إذ كانت المرأة وسيلةً للشّهوة لا تضبط ذلك قوانين ولا نُظم، فالرّجل يتزوج أخته ويتزوج بنته وربّما يتزوج أمّه، أقرّ ذلك دين المجوس أقرّت ذلك المثنويّة المجوسيّة حيث كان دين إباحيّة لا خلقيّه، وكم سمعنا عن ملوكٍ أكاسرةٍ تزوّجوا بناتهم وتزوّجوا أخواتهم، لأنّ دينهم لا يحول بينهم وبين ذلك.
في أطراف الصّين وفي هملايا كانت المرأة كذلك وسيلةً للّذّة والشّهوة لا أكثر، لقد انحرفت فطرة المجتمعات البشريّة بأسرها فنزلت بالمرأة عن رتبتها الّتي وضعت فيها خِلقة وفطرة.
وأمّا في بلاد العرب فلا نقول كانوا الأفضل والأحسن، ولكنّنا نقول كانوا الأقلّ سوءً، كانوا أقلّ سوءً من غيرهم في تعاملهم مع المرأة، فالمرأة عندهم ربّما وصلت إلى الزّعامة، وربّما كانت لها مكانةٌ وكان لها جاهٌ وسيادةٌ في قومها، فهذه /أمُّ مصعب بن عمير/، وتلك /هند بنت عتبة/، وتلك /خديجة بنت خويلد/ وغيرهنّ وصلن إلى رتبٍ عالية، ولكنّ هذا الّذي كان في قريش لم يكن في كلّ قبائل العرب، فالوأد كان سائداً في أماكن كثيرة، وأنْ لم يكن سائداً عند العرب كلّهم؛ لأنّه لو كان ذلك لانقرض العرب، ولم يكن لفترةٍ طويلةٍ؛ لأنّه لو كان ذلك لانقرضت قبائل بأسرها، ولم يكن عند كلّ طبقات القبائل إنّما كان عند الفقراء دون الأغنياء، وكان عند العوامّ دون السّادة لأنّ السّيد لا يعيبه شيء؛ فإذا وُلِدَت له بنتٌ أو صبي فإنّ المولود سيكتسب السّيادة من أبيه، كان الوأد سائداً فجاء الإسلام ليحاربه { وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ * } ، { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ * } ، { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * } .
كانت المرأة في قبائل كثيرٍ من العرب ممنوعةً من الإرث، فإذا مات الرّجل ورثه أبناؤه الذّكور، وحُرِمَ النّساء الإناث من الميراث، وكانوا يقولون: إنّما يرث من يحمي القبيلة ويدفع عن العرض، فالرّجل عندهم منتج والمرأة مستَهْلِكَة، وينسون أن المرأة حملت وأرضعت وربّت، ينسون هذا وينظرون إلى الإنتاج في ساحة الحرب لا أكثر، بل إنّ قبائل كثيرةً من العرب كانوا يجعلون المرأة موروثةً فضلاً عن أنْ لا تكون وارثة، فإذا مات الرّجل وعنده نساءٌ وأزواجٌ عديدات؛ فإنّ أكبر أبنائه هو الّذي يرث أزواجه، تؤول إليه أزواج أبيه فيصرن مِلكاً شخصيّاً له، ويكون مخيراً بين أن يتزوج من شاء منهنّ، وبين أن يُزَوِّج من شاء من هنّ لمن شاء، على أن يقبض مبلغاً من المال من هذه المرأة حتّى يسمح لها بأن تتزوج، فإن لم تدفع له فإنّه يمنعها، وذلكم هو العضل الّذي حرمه الإسلام فقال: { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ } فإمّا أنْ يتزوجها وهي زوجة أبيه، وهي الّتي في مقام أمّه، وإمّا أنْ يدعها تنتظر قدرها في ركنٍ من البيت لا قيمة لها ولا وزن، فلا يزوجها ولا يعتقها إلى أن يأتي أمر الله فيها.
كانت المرأة عندهم شراً مستطيراً، فلقد قالت أديان الهند: "إنّ الوباء والموت والأفاعي والسّمّ خيرٌ من المرأة"، ولقد قالوا: "أنّ المرأة قذرةٌ نجسةٌ"، وكان العرب أقلّ سوءً في ذلك، فإذا قارنت كلّ هذا نظريّاً وعمليّاً بما جاء الإسلام به من أجل المرأة علمت أنّ الإسلام كان في هذا المجال ثورة، ثورةً بكلّ معنى الكلمة، ثورةً لأنّ الفوارق بين أحكامه والأحكام السّائدة فوارق شاسعة، ثورةً لأنّ المجتمعات في ذلك الوقت ما كانوا ليتقبلوا أحكام الإسلام في المرأة لو لم يكن الإسلام دين الله، لو لم يكن ديناً مُنْزَلاً، لأنّ التّغير في مثل هذا ليس تغيراً سهلاً بسيطاً.
فإذا تأكد صاحب المرض وصاحب الغرض من أنّ الإسلام إذا قورن بالشّرائع السّابقة وبالمجتمعات القديمة كان ثورةً وكان خير ما يُعطى للمرأة قد أعطي فيه، إذا تأكّد من ذلك فقد تثار عنده شبه أخرى فيقول: "علمنا أنّ الإسلام في آنه كان أفضل ما يمكن وخير ما يمكن أن يعطى للمرأة، ولكن ماذا لو قارنا الإسلام بالتّشريعات الحديثة الّتي زادت من حقوق المرأة ورفعت من شأنها وأعلت من مقدارها؟، سنجد إذاً - والكلام لأولئك المغرضين المرضى - يقولون: سنجد إذاً أنّ سلّم التّطور الّذي كان الإسلام درجةً من درجاته وأنّ سلسلة التّقدم الحقوقيّ للمرأة الّذي كان الإسلام حلقةً من حلقاته استمرّ في التّقدم بعد الإسلام حتّى وصل القمّة في القرن العشرين، لذلك وجب أن ندع قوانين الإسلام في هذا النّطاق لأنّها صارت لا تناسب حقوق المرأة بعد أن جاء ما هو خيرٌ منها".
وهاهنا وجب علينا أن نردّ الشّبهات بالتّفصيل لأنّ تلك الشّبهات خُدِعَ بها كثيرون من المسلمين الضّعاف الّذين تأخذهم الرّيح وتأتي بهم، والّذين تعصف بهم عواصف المبادئ الغربيّة والشّرقيّة، وما أكثر ما جاء شبابنا من بلاد الغربة وقد حملوا مثل هذه الأفكار، فصاروا يطالبون بتعديل قوانين الإسلام ليتماشى هذا الإسلام مع القرن العشرين ومع النّظام الدّوْلي الجديد ومع قوانين المنظمات الدّوْليّة ومع الرّأي العامّ العالميّ، حفظوا بعض الكلمات والمصطلحات وجاؤوا ليحاربوا دينهم بها، ولم يعلموا أنّ الّذي جاؤوا به إنّما هو أسلحةٌ فارغةٌ كألعاب الأطفال يريدون بها أنْ يحاربوا الإسلام الّذي هو كجبلٍ شامخٍ لا تقوى أسلحة الأرض على أن تدكّه.
نعم أمسكوا بأسلحةٍ هي بألعاب الأطفال أشبه، ووجهوها نحو هذا الجبل الرّاسي الشّامخ الطّود العظيم الّذي لا تنال منه شبهات المشبهين، ولا يمكن أن تقوّض أسسه كلّ مذاهب الأرض الفاسدة الكافرة { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * } .
أوّل ما نلحظ في الإسلام - الّذي طوى صفحةً طويلةً مديدةً من اضطهاد المرأة - أنّ الإسلام سوّى بين الرّجل والمرأة في أصل الخِلقة فقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ * } فجعل الذّكر والأنثى كليهما أصلاً للخلق، فهما من هذا المنطلق متساويان، ولكنّه أوضح أنّ الذّكر يفضل الأنثى لأنّ الذّكر هو أصل الأنثى فقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً * } ، فالرّجل والمرأة أصل، والبشريّة فرع، ثمّ الرّجل أصلٌ، والمرأة فرع، فهما يتفاضلان فيما بينهما ويتساويان من منطلقٍ آخر، لذلك فإنّ الدّعوة للتّسوية المطلقة بين الرّجال والنّساء تتنافى مع الفطرة مع الطّبيعة الّتي أودعها الله في هذين الكائنين، كما لو أنّك تساوي بين درهم ودينار، وكما لو أنّك تساوي بين ذهب وفضّة، وكلاهما ثمينٌ وله قيمة، ولكنْ لا يمكن أنْ نساوي بينهما لاختلاف النّوع، وكما لو أنّك تساوي بين تفاحةٍ وبرتقالة، كلاهما طيّبٌ ولكنّ هذا غير ذاك، فلا يمكن التّسوية بين مختلفين، إنّما تكون التّسوية داخل النّوع الواحد.
نخطئ إذاً إذا قلنا: ثمّة مساواةٌ بين الرّجل والمرأة، لأنّ المساواة تعني تساوياً في الواجبات وتساوياً في الحقوق، المرأة يجب عليها أن تحمل، وأن تلد، وأن ترضع، فهل يجب ذلك على الرّجل؟ الرّجل يجب عليه أن يعمل في أشغالٍ شاقّة لينفق على أسرته، فهل تقوى على ذلك المرأة؟ ثمّة تفاضلٌ في التّركيب الأصليّ الطّبيعيّ لهذا الرّجل ولهذه المرأة، فوارقٌ فيزيولوجيّةٌ ومورفولوجيّةٌ ( عضويّةٌ ووظيفيّة ) تجعل أمراً مستحيلاً أن نسوّي بينهما، أمّا أنْ نقول: إنّ الرّجل والمرأة متكاملان فذلك مقبول، وأمّا أن نقول: إنّ الرّجل والمرأة متساويان فذلك مرفوض، علاقة التّكامل هي الّتي جاء الإسلام بها لتنظيم ما بين الرّجل والمرأة.
أمّا إذا أريد بالتّساوي: التّساوي في القيمة البشريّة، التّساوي في المكانة الأصليّة، التّساوي في أصل الخلقة، التّساوي في أجر العمل الصّالح ووزر العمل السّيئ؛ فإنّ ذلك كلّه في شرع الله واضح بيّن:
الرّجل والمرأة لهما أوّلاً شخصيّةٌ دينيّةٌ متماثلة، بحيث إنّ العمل الصّالح من الرّجل كالعمل الصّالح من المرأة أجراً وثواباً، أمَا قال تعالى: { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنكُم مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِن بَعْضٍ }، لقد سوّى بين الذّكر والأنثى في أجر العمل { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنكُم مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِن بَعْضٍ } ، أمَا قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } فسوّى بينهما في أجر العمل الصّالح، كان الخطاب في القرآن غالباً ذكوريّاً، وليس هذا تخصصاً للذّكور، ولكنْ ليس في اللّغة إلاّ مذكّرٌ ومؤنّث، فإذا أردنا أن نذكر الإثنين معاً فإنّنا نغلّب خطاب المذكّر على الخطاب المؤنّث، بل إذا أردنا أن نتكلّم عن صنفٍ ثالثٍ لا هو مذكّرٌ ولا مؤنّث؛ فإنّنا نتكلّم عنه بصيغة المذكّر، خذ مثلاً الحديث عن الملائكة، والملائكة ليسوا ذكورا ولا إناثاً، لذا فإنّ الكلام عنهم يكون بصيغة المذكّر فيقول سبحانه: { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } قال: { نَزَّلَهُ } لأنّه لا يعقل أن يقول ( نزّلها )، فقوله { نَزَّلَهُ } لا يثبت الذّكورة، ولكنّه ينفي الذّكورة والأنوثة معاً، سمّاه الله: رسولاً أميناً كريماً، فقال سبحانه: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * } فوصفه بأوصاف الذّكور وليس هو ذكراً ولا أنثى، هكذا في اللّغة، لذلك فقد كان الخطاب في القرآن ذكوريّاً عموماً لأنّه يتناول الذّكور والإناث، فعندما يقول: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * } فإنّما يريد الرّجال والنّساء، ولا يُعقل أن يتكلّم عن الفريقين بالتّفصيل في كلّ مرّة فيقول: ( إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات وإنّ اللّواتي آمنَّ وعملن الصّالحات كانت لهم وكانت لهنّ جنات الفردوس نزلا ) لا يعقل ذلك لأنّ القرآن اعتمد فيه التّكثيف في العبارة والاختصار في الألفاظ لأنّه بليغٌ بلاغةً معجزة، ولكنْ لمّا ظنّ النّساء أنّ الخطاب الذّكوريّ في القرآن موجهٌ للذّكور خصوصاً طلبن خطاباً لهنّ، فقلن: ( ذهب الرّجال بكلّ ما في القرآن أفلا يتوجّه القرآن إلينا؟ )، فأنزل الله إرضاءً لهن: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً * } ، فأرضاهنّ عندما فصّل في أوصافهنّ كما فصّل في أوصاف الرّجال، ولكنْ لا يمكن أنْ يكون هذا قاعدةً يسير عليها كلّ نصٍّ قرآنيٍّ، إذاً فالرّجل والمرأة لهما معاً شخصيّةٌ شرعيّةٌ متماثلةٌ؛ فالحرام في حقّ المرأة حرام في حقّ الرّجل- إذا كان من المحرّمات العامّة - والواجب على المرأة واجبٌ على الرّجل، هذا هو أوّل طريق المساواة.
ثمّ سوّى بينهما في الشّخصيّة الحقوقيّة؛ فجعل الجناية الّتي يرتكبها الرّجل كالجناية الّتي ترتكبها المرأة، فلا تُدَان المرأة ويُبَرّأ الرّجل لأنّ الرّجل رجل، بل: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * } ، { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } ، سوّى بينهما { وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * } وحتّى لا يُظنّ أنّها جريمةٌ في حقّ النّساء فقط لأنّه قال: { وَاللاَّتِي يَأْتِينَ }؛ فلذلك قال: { وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } أي الرّجل والمرأة اللّذان يأتيان الفاحشة { وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا } ونُسِخت الآية حكماً، نُسِخت بالنّصّ النّبوي الّذي سوّى بين الرّجل والمرأة، فقال عليه الصّلاة والسّلام: [ خذوا عنّي، خذوا عنّي قد جعل الله لهنّ سبيلاً البكر بالبكر جلد مئةٍ وتغريب عام والثّيب بالثّيب جلد مئةٍ والرّجم ]، البكر بالبكر، رجلٌ وامرأة لم يميَّز بينهما في العقوبة، فالشّخصيّة الحقوقيّة متماثلةٌ عند الكائنين لأنّ أصل الخلقة واحد والتّكليف واحد فالثّواب والعقاب لا بدَّ أن يتفقا بين هذين الجنسين.
سوّى بينهما في الشّخصيّة الماليّة فلم يجعل الرّجل أهلاً للتّملّك والمرأة غير أهلٍ له، بل قال سبحانه: { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً * } ، وقال سبحانه - وقد أقرّ للمرأة أن ترث بعد أن كانت من ذلك ممنوعة { لِلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً * } ، فالمرأة تملك كما يملك الرّجل، والمرأة لها أن تتصرّف في مِلْكها، ولها الحرّيّة المطلقة وليس لزوجها أن يحجُر عليها حرّيّتها وأن يقول ليس لكِ أن تبيعي أو ليس لكِ أن تشتري، فإنّ ذلك حقٌّ موهوب من الله ليس لأحدٍ أن يغتصبه، بل إنّ للمرأة حقوقاً ماليّة في ذمّة زوجها إن اغتصبها كان آكلاً للمال الحرام، فلها في ذمّته المَهْر، والمَهْر إنّما هو نتيجةٌ للعقد المقدّس، وما دام نتيجةً للعقد المقدّس فهو إذاً مقدّس، عقد الزّواج أشرف عقدٍ يكون بين اثنين من البشر، ولا أشرف من عقد الزّواج إلاّ عقد الإيمان الّذي يكون بين البشر وربّ البشر، عقد الزّواج شريفٌ مباركٌ جعلت ثمرته هذه الدّريهمات الّتي تسمّى المَهْر، لذا وجب العناية بها ولذا قال عليه الصّلاة والسّلام: [ إنّ أحقّ الشّروط أن توفوا به ما استحللتم به فروج النّساء ]، { وَآتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً *} ، جعلها الله نِحْلة، ثمّ جعلها النّبي عليه الصّلاة والسّلام - مفسّراً مفصّلاً - حقّاً عظيماً، أخذ القانون بذلك فسمّى المَهْر ( دَيْناً ممتازاً ) والدَّيْن الممتاز: الّذي إذا طُلِب دُفِع على جناح السّرعة، دُفِع عن طريق التّنفيذ لا عن طريق المحاكم الّتي قد تُستأنف أحكامها ثمّ تنقض، هو دَيْنٌ ممتازٌ يُؤدَّى عند الطّلب، [ إنّ أحقّ الشّروط أن توفوا به ما استحللتم به فروج النّساء ]، فلا المَهْر حقٌّ لوالدها، ولا هو حقٌّ لزوجها، فليس لوالدها أن يسلبها مَهْرها، وليس لزوجها أن ينكر هذا المَهْر، فهو حقٌّ شخصيٌّ لها، ثمّ لها في ذمّته النّفقة والكسوة والمسكن، أن يطعمها ممّا يأكل ويكسوها ممّا يلبس ويسقيها ممّا يشرب وألاّ يجور عليها في النّفقة، بل لا بدّ من أن ينفق عليها بقدر استطاعته { عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } وإلاّ فإنّه يُحاسب يوم القيامة على هذا الظّلم الّذي فعل، حتّى ولو كانت زوجته ثريّةً وكان زوجها فقيراً، بل حتّى لو بلغ ثراء المرأة الثّراء الفاحش وبلغ فقر الرّجل الفقر المدقع؛ فلا يجب عليها أن تنفق عليه إلا تفضّلاً، إن شاءت أن تكسب الأجر والثّواب وتنفق على زوجها دون أن تمنّ ودون أن تذكّر زوجها بأنّها تنفق فإنّها مأجورة، ولكنْ إنْ لمْ تشأ أنْ تفعل ذلك، وإنْ شاءت أنْ تدّخر كلّ أموالها فإنّ على زوجها أنْ يبذل جهده لينفق عليها وهو الفقير وهي الغنيّة، لها شخصيّةٌ ماليّةٌ متميّزةٌ متفرّدةٌ، كلّ هذا أعطاه الإسلام لهذه المرأة، حتّى رأيت المرأة في ذلك العصر صنو الرّجل في هذه المسائل، حقوقيّةً كانت أو ماليّةً.
وأمّا الشّخصيّة الاجتماعيّة للمرأة فلم تنزل عن تلك الرّتبة، فقد رأينا المرأة في مجتمعها عالمةً معلّمة، كما أنّ الرّجل عالمٌ معلّم، رأينا المرأة مثلاً - في عهد الصّحابة الكرام في عهد النّبي عليه الصّلاة والسّلام - رأيناها إنْ من وراء سترٍ كأمّهات المؤمنين أو من دون سترٍ كباقي نساء الصّحابة رأيناها محدّثةً فقيهةً مفتيةً، وتلك أمّ المؤمنين /عائشة/ رضي الله عنها الّتي كانت تحلّ إشكال الفقه للصّحابة الكبار، فإذا أشكل عليهم أمرٌ جاؤوها سائلين فتقول لهم: ( على الخبير وقعتم ).. وكم من أحاديث روت /عائشة/ رواها عنها رجال، الرّجال سمعوا الحديث منها ورووه، لأنّ المرأة يجب عليها مثلما يجب على الرّجل أن تُعلِّم ما تعلم، وأن تُحدِّث ما تسمع، هكذا أمر الله تعالى في كتابه أمّهات المؤمنين فقال لهنّ:{ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ } ، فهنّ مأمورات بتبليغ الآيات والحكمة، والحكمة: هي السّنّة النّبويّة المطهّرة :{ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ } فهنَّ إذاً معلِّمات، من بعد جيل الصّحابة لم ينقطع دور المرأة العلميّ، فتلك /أمُّ الدّرداء الصّغرى/ زوجة /أبي الدّرداء/ وليست صحابيّةً إنّما الصّحابيّة /أمَّ الدّرداء الكبرى/ تلك التّابعيّة الجليلة /أمُّ الدّرداء/ لها مجلس علمٍ في مسجد دمشق، تجلس فيه ويجلس إليها النّاس من رجالٍ ونساءٍ، يستمعون حديثها وفقهها، بل إنّ /عبد الملك بن مروان/ أمير المؤمنين كان يجلس في مجلسها ويتعلّم من علومها.
فهل رأيت مثل هذا النّموذج؟! وهل سمعت بأنّ في مجتمعٍ يعيش في ذلك العصر مثل هذه المساواة في الحقوق العلميّة؟!!
كما أنّ المرأة واجبٌ عليها العبادة وجوبها على الرّجل، إذاً واجبٌ عليها التّعلُّم وجوبه على الرّجل، لأنّ العلم أصلٌّ والعبادة ثمره، فلا بدَّ إذا ابتغينا المساواة في الثّمرات أن نساوي في الأصول، ما دام النّساء والرّجال متساوين في العبادات فلا بدّ من أن يتساووا في طلب العلم، لأنّ عبادةً بغير علمٍ قد تُرَدُّ لفسادها، وقد تُكره لنقصانها، لذلك وجب التّعلم على كلّ من وجب عليه التّعبّد، فالمرأة وجب عليها التّعلُّم، وكلّ من تعلَّم وجب عليه أن يُعلِّم ما تَعلَّم، لذلك وجب على المرأة التّعلِّيم، ووجب عليها نشر العلم الّذي أخذته.
وأمّا من حيث شخصيّتها السّياسيّة فإنّ المرأة أخذت قسطاً وافراً من المساواة مع الرّجل في الحقوق السّياسيّة كما أخذت المساواة معه في الحقوق المدنيّة، فرأينا المرأة في ذلك العصر تتولى الوظائف الحكوميّة العالية، رأيناها في عهد المصطفى عليه الصّلاة والسّلام محتسبة، أي آمرةً بالمعروف ناهيةً عن المنكر، أي مفتّشةً تموينيّةً في العصر الحديث، كانت محتسبةً في سوق المدينة، ثمّ رأينا وظيفة الحِسْبة آلت في عهد /عمر بن الخطاب/ رضي الله عنه إلى /الشّفاء بنت أبي سليمان/ وكان لها سوطٌ تضرب به الغشّاشين، نعم لم تتولّى المرأة السّلطة العظمى لأنّ النّبي عليه الصّلاة والسّلام قال: [ ما أفلح قومٌ ولّوا أمرهم امرأة ]، ولم تتولّى القضاء، لأنّ القضاء ملحقٌ بالسّلطة العظمى عند جمهور الفقهاء، غير /أبي حنيفة/ و /ابن جرير الطّبري/ فإنّه يجوز للمرأة أن تتولّى القضاء في الأمور النّسائيّة خصوصاً الّتي لا تصحّ فيها إلاّ شهادة المرأة، وإنْ كانت هذه شبهةٌ تثار حول هذا الحكم فإنّنا نردّها في وقتها بإذن الله تعالى، وإنّما نعلم هنا أنّ المرأة تولّت وظائف مدنيّةً، وتولّت مناصب سياسيّةً، وتولّت مواقع عسكريّةً، فكانت المجاهدة، وكانت المحتسبة، وكانت المستشارة المؤتمنة، وكانت في المجتمع المسلم لا تقلّ منزلتها عن منزلة الرّجل.
علمنا إذاً أنّ المرأة والرّجل متساويان من وجهٍ متكاملان من وجهٍ آخر، فليس التّساوي بينهما مطلقاً، فإذا قلنا ليس التّساوي مطلقاً فليس بديل التّساوي التّفاوت، إنّما بديل التّساوي التّكامل، هذه هي المرأة في الإسلام عموماً، وهذه بعضٌ من النّقاط المشرقة الّتي بدّدت ظلام العصور والمجتمعات ( ظلام الزّمان والمكان ) ليجعل الإسلام المرأة في سدّةٍ عاليةٍ بعيداً عن سهام المغرضين، وبعيداً عن شبهات المشبّهين، وأمّا ما يقولون من شبهاتٍ وليس في الإسلام نقيصة، وأمّا ما يتّهمون الإسلام من انتهاك للمرأة وليس فيه ذلك، فإنّ الكلام عنه يطول، وإنّنا بإذن الله تعالى نوضح كلّ واحدٍ ممّا يقولون من تلك الشّبهات، ونحن نعلم أنّنا لسنا في موضع المدافع عن الإسلام، لأنّ الإسلام أكبر منّا ولا يحتاج لأنْ ندافع عنه، إنّما نحن في موضع المدافعين عن أنفسنا، لأنّنا نتشرّف إذا أوضحنا الإسلام على حقيقته، أمّا الإسلام فلا يشرف بنا، إنّما نحن الّذين نشرف به، نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممّن { يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } ، أقول هذا القول وأستغفر الله.
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، إقراراً بوحدانيّته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أنّ سيّدنا محمّداً عبده ورسوله الشّفيع المشفّع في المحشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ ووعت أذنٌ لخبر، أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، وأحثّكم وإيّاي على طاعته، وأحذّركم وبال عصيانه ومخالفةِ أمره، واعلموا أنّه لا يضرّ ولا ينفع ولا يصل ولا يقطع ولا يعطي ولا يمنع ولا يخفض ولا يرفع ولا يفرّق ولا يجمع إلاّ الله، واعلموا أنّ الله أمركم بأمرٍ بدأه بنفسه، وثنّى بملائكة قدسه وعرشه، فقال تعالى: { إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً * } ، اللّهمّ صلّ على سيّدنا محمّدٍ وعلى آل سيّدنا محمّد، كما صلّيت على سيّدنا إبراهيم وعلى آل سيّدنا إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد، اللّهمّ بارك على سيّدنا محمّدٍ وعلى آل سيّدنا محمّد كما باركت على سيّدنا إبراهيم وعلى آل سيّدنا إبراهيم في العالمين إنّك حميدٌ مجيد.
اللّهمّ أيّد الإسلام وأعزّ المسلمين، وأعلي وانصر يا مولنا الحقّ والدّين، اللّهمّ من أراد بالإسلام والمسلمين خيراً فوفّقه إلى كلّ خير، ومن أراد بالإسلام والمسلمين شرّاً فخذه أخذ عزيزٍ مقتدر، واجعله عبرةً لمن أراد أن يتذكّر أو يعتبر، اللّهمّ إنّا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كلّ برّ، والسّلامة من كلّ إثم، والفوز بالجنّة، والنّجاة من النّار، لا تدع اللّهمّ لنا ذنباً إلاّ غفرته، ولا همّاً إلاّ فرّجته، ولا كرباً إلاّ نفّسته، ولا ديناًَ إلاّ قضيته، ولا مريضاً إلاّ شفيته، ولا مبتلىً إلاّ عافيته، ولا ضالاً إلاّ هديته، ولا مظلوماً إلاّ نصرته، ولا ظالماً لنفسه إلاّ أصلحته، ولا ظالماً لنا إلاّ أصلحته أو قصمته، ولا دعاءً إلاّ أجبته، ولا حاجةً إلاّ قضيتها، يا قاضي الحاجات، يا مجيب الدّعوات، يا كاشف الملمّات، يا سامع الأصوات، يا ربّ الأرضين والسّماوات، يا مبدّل السّيئات حسنات بدّل سيّئاتنا حسنات، يا ظهر اللاّجئين، يا جار المستجيرين، يا أمان الخائفين، يا دليل المحتيّرين، يا مقوّي الضّعفاء إنّا ضعفاء فقوِنا، إنّا محرومون فأعطنا، إنّا فقراء فأغننا، إنّا أذلاّء فأعزّنا، إنّا مقهورون فانصرنا، إنّا مذنبون فتب علينا، واغفر لنا برحمتك يا أرحم الرّاحمين، اللّهمّ لا توجّه قلوبنا إلاّ إليك، ولا تجعل اعتمادنا إلاّ عليك، اللّهمّ ردّنا إليك ردّاً جميلاً، اللّهمّ أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه وحبّبنا فيه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وكرّهنا فيه، { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * } ، واغفر اللّهمّ للمسلمين والمسلمات المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنّك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيب الدّعوات، والحمد لله ربّ العالمين.
عباد الله:
{ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * } .

الملفات الصوتية
الملف الأول
أرسل هذه الصفحة إلى صديق
اسمك
بريدك الإلكتروني
بريد صديقك
رسالة مختصرة


المواضيع المختارة
مختارات

[حسن الظن بالله]

حسن الظن بالله يعني أن يعمل العبد عملاً صالحاً ثم يرجو قبوله من الله تعالى ، وأن يتوب العبد إلى الله تعالى من ذنب عمله ثم يرجو قبول الله تعالى لتوبته ، حسن الظن بالله هو ذاك الظن الجميل الذي يأتي بعد الفعل الجميل.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام : {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى.}
قال سبحانه في الحديث القدسي :{ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني } أنا عند ظن عبدي بي فإذا ظننت أنه يرحمك وأخذت بأسباب الرحمة فسوف يرحمك ، وأما إن يئست من رحمته وقصرت في طلب أسبابها فإنه لن يعطيك هذه الرحمة لأنك حكمت على نفسك والله تعالى سيحكم عليك بما حكمت أنت على نفسك .