التوحيد > مبادئ علم التوحيد
مبادئ علم التوحيد

علم التّوحيد أشرف العلوم، لأنّ موضوعه أشرف الموضوعات، ألا وهو ذات الله سبحانه وتعالى، وقيمة العلم إنّما تعرف بقيمة متعلَّقه، فعلم الهندسة يتعلق بالأبنية، والبناء لا بدّ منه ليؤويَ وليمنع الحرّ والبرد، وليمنع كلّ شرٍّ من سلبٍ ونهبٍ وما إلى هنالك، فكان علم الهندسة شريفاً، وكان أشرف مثلاً من علم النّجارة الّذي يتعلّق بأثاث المنزل، فالمرء قد يعيش بدون أثاثٍ داخل منزل، ولكن يصعب عليه أن يعيش بدون منزل، ثم كان علم الطّب أشرف من علم الهندسة، لأنّ فيه إصلاح الأجساد، فالمرء قادرٌ إذا كان ذا عافيةٍ وصحّة أن يعيش في العراء، وذلك خيرٌ له من أن يكون عنده مسكن، ولا تكون عنده صحةٌ ولا عافية، وأن يموت، فكان علم الطّبّ أشرف من علم الهندسة لأنّ موضوعَه أشرف من موضوعِه، وعلم التّوحيد موضوعه ذات الله تعالى لذلك كان أشرف العلوم

الدّرس الرّابع ( مبادئ علم التوحيد ):
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم على سيّدنا محمّد وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللّهمّ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللّهمّ لك الحمد ملء السّماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيءٍ بعد، ربّنا لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. اللّهمّ تبرّأنا إليك من أنفسنا ولجأنا إليك، لا توجّه قلوبنا إلاّ إليك، ولا تجعل اعتمادنا إلاّ عليك. اللّهمّ تبرّأنا إليك من حولنا وعلمنا وقوتنا، ولجأنا إلى حولك وعلمك وقوتك، فإنّك أنت القويّ ونحن الضّعفاء، وإنّك أنت الغنيّ ونحن الفقراء، وإنّك أنت العزيز ونحن الأذلاّء، وإنّك أنت القدير ونحن العاجزون، وإنّك أنت العليم ونحن الجاهلون، وإنّك أنت علاّم الغيوب. ربّنا لا تكلنا إلى أنفسنا، ولا إلى غيرك طرفة عينٍ ولا أقلّ من ذلك، وأصلح لنا شأننا كلّه في الدّين والدّنيا والآخرة، ربّنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين، لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّا كنّا ظالمين. اللّهمّ ارحمنا فإنّك بنا راحم، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر، والطف بنا فيما جرت به المقادير. اللّهمّ اغفر لنا ما قدّمنا وما أخرّنا، وما أسررنا وما أعلنّا، وما أسرفنا وما أنت أعلم به منّا، أنت المقدّم وأنت المؤخّر، لا إله إلاّ أنت لك الملك ولك الحمد. اللّهمّ ّعرّفنا مقادير أنفسنا فلا نستكبر ولا نطغى، وعرّفنا مقادير عبادك فننزل كلّ واحدٍ منزلته، وعرّفنا مقدارك فنعبدك حقّ العبادة، ونرجوك حقّ الرّجاء، ونخافك حقّ المخافة، ونحبّك حقّ الحبّ. اللّهمّ اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك، أحينا ما كانت الحياة خيراً، لنا وتوفّنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا. اللّهمّ بفيضك العميم عمّنا، واكفنا اللّهمّ شرّ ما أهمّنا وأغمّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسّنّة جمعاً توفّنا، نلقاك اللّهمّ وأنت راضٍ عنا… اللّهمّ صلِّ على سيّدنا محمّدٍ الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، والنّاصر الحقَّ بالحقِّ، والهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله ربّ العالمين.
علم التّوحيد أشرف العلوم، لأنّ موضوعه أشرف الموضوعات، ألا وهو ذات الله سبحانه وتعالى، وقيمة العلم إنّما تعرف بقيمة متعلَّقه، فعلم الهندسة يتعلق بالأبنية، والبناء لا بدّ منه ليؤويَ وليمنع الحرّ والبرد، وليمنع كلّ شرٍّ من سلبٍ ونهبٍ وما إلى هنالك، فكان علم الهندسة شريفاً، وكان أشرف مثلاً من علم النّجارة الّذي يتعلّق بأثاث المنزل، فالمرء قد يعيش بدون أثاثٍ داخل منزل، ولكن يصعب عليه أن يعيش بدون منزل، ثم كان علم الطّب أشرف من علم الهندسة، لأنّ فيه إصلاح الأجساد، فالمرء قادرٌ إذا كان ذا عافيةٍ وصحّة أن يعيش في العراء، وذلك خيرٌ له من أن يكون عنده مسكن، ولا تكون عنده صحةٌ ولا عافية، وأن يموت، فكان علم الطّبّ أشرف من علم الهندسة لأنّ موضوعَه أشرف من موضوعِه، وعلم التّوحيد موضوعه ذات الله تعالى لذلك كان أشرف العلوم، وحتّى نتعرّف على العلم بالتّفصيل فلا بدَّ من التّعرّف على المبادئ العشرة الّتي هي أسُسٌ رئيسةٌ في كلّ علم، والّتي جمعها الإمام شهاب الدّين أبو العبّاس المقّريّ في منظومته التّوحيديّة المسمّاة ( إضاءة الدُّجنَّة في عقائد أهل السّنّة ) فقال رحمة الله عليه:
مـنْ رَامَ فنّــاً فاليُقــدِّمْ أوّلا * عِلمـاً بحـدِهِ وموضـوعٍ تَـلا
وواضـعٍ ونسبـةٍ ومـا استمـدْ * مِنْـهُ وفضْلِـهِ وحُكـمٍ يُعْتَمــدْ
واسـمٍ ومـا أفـادَ والمَسـائـلْ * فتلـكَ عَشـرٌ لِلْمُنـى وسـائـلْ
وبعضهمْ فيها على البعضِ اقتصرْ * ومَنْ يَكُنْ يدريْ جميعُها انْتَصَـرْ
فالمبدأ الأوّل: هو حدّه؛ والحدُّ: معناه التّعريف أو المفهوم، المفهوم الاصطلاحي لهذه الكلمة، وعلم التّوحيد الّذي يُسمّى أسماءً أخرى كما سوف نرى في أحد المبادئ العشرة.
علمٌ التّوحيد: علم يتضمن العقائد الدّينيّة مستمدّةً من الأدلّة اليقينيّة. إذاً له أكثر من تعريف، فيعرّف علم التّوحيد: بأنّه العلم بالعقائد الدّينيّة عن الأدلّة اليقينيّة، ويعرّف كذلك: بأنّه العلم بما يجب لله تعالى وما يجوز وما يستحيل، وما يجب للأنبياء وما يجوز وما يستحيل، وأحوال المعاد، وسائر الممكنات… وهنا ينبغي أن نميِّز في كلمة التّوحيد بين التّوحيد اللّغويّ والتّوحيد الاصطلاحيّ، ثم التّوحيد الاصطلاحيّ أيضاً على نوعين: بمعنى الفنّ المدوّن، ولا بمعنى الفنّ المدوّن.
فالتّوحيد اللّغويّ: العلم بأنّ الشّيء واحد، أو الحكم على الشّيء بأنّه واحد أو تصيير الشّيء واحداً ( تصيير الأشياء العدة شيئاً واحداً )، فيقال: وُحِّدت ألبسة الطّلاب في المدارس، فهذا توحيد بمعنى: جُعلت زيّاً واحداً ولباساً واحداً، في اللّون والشّكل والهيئة فهذا توحيد؛ ويقال وحّدت ربّي: أي علمت أنّه واحد، واعتقدتُ أنّه واحد وجزمت بأنّه واحد؛ فالتّوحيد اللّغويّ إذاً: العلم بأنّ الشّيء واحد، أو الحكم بأنّ الشّيء واحد، أو تصيير الأشياء المتعددة شيئاً واحداً
وأمّا التّوحيد الشّرعيّ العامّ الّذي ليس فنّاً مدوّناً فإنّه: إفراد المعبود بالعبادة، مع اعتقاد وحدته ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً…، ( إفراد المعبود بالعبادة ) أي: نفي الشّريك له ظاهراً وباطناً.
والشّرك أنواع: فهناك شرك إنكار: وهذا ما تميّز به المادِّيّون الملحدون، الّذين ينكرون وجود الله بالمرّة، وهذا شرّ أنواع الشّرك.
وهناك شرك تعدّد: وهذا ما يعتقد به المجوس من الفرس، حيث يعتقدون بوجود إلهين: إلهٍ للشّرّ وإلهٍ للخير، وهذا ما كان اليونان يعتقدونه عندما كانوا يقولون: إله الحب والجمال: "فينوس"، إله الشّعر والموسيقى: "أبّولو"، إله الخصب: فلان، إله الجبال: فلان، إله البحار: فلان، وكبير الآلهة عندهم: "زيوس"، وكانوا يجعلونه متربّعاً على قمّة عرشه على جبل ( أورمب )، فلمّا احتلّوا بلادنا في الحقبة الّتي تعرف بالعصور الهيلينيّة ( أو الهلينيستيّة ) نقلوا هذا الشّرك إلى بلادنا، وجعلوا في سوريّا أيضاً آلهة عدّة، وكبير الآلهة الّذي يماثل "زيوس" في بلاد اليونان جعلوه الإله "حدد"، وجعلوه يتربّع على قمة جبل ( الأقرع )، عوضاً عن جبل ( أورمب )، فعلّموا أهل بلادنا الشّرك ( شرك التّعدد ) الّذي كان عندهم في بلاد اليونان.
وأمَّا الشّرك الثّالث فإنه شرك الانقسام. وهذا ما يعتقد به النّصارى، حيث يعتقدون أنَّ الله واحد؛ ولكنّ ذاته مركّبةٌ من ثلاثة أجزاء: الأب والابن والرّوح القدس - تَعَالَى الله عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً - فهذا ليس تعدّداً إنّما هو انقسام، وكلّه شرُّ من بعضه { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } .
النّوع الرّابع هو شرك الواسطة، وشرك الوسيلة: وهذا هو شرك متقدميّ العرب، كما قال تعالى على لسانهم: { مَا نَعْبُدُهُمْ إلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى } فهم يعبدون الله على إنّه إلهٌ واحد، ولكن يعبدون آلهةً أخرى متقربين إلى الله تعالى من خلالها، ويعتقدون أنّ هذه الآلهة واسطةٌ بينهم وبين الله تعالى.
وأما النّوع الخامس من الشّرك فإنه شرك التّقليد: وهذا هو شرك متأخريّ العرب، كما قال تعالى: { مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم } وكذلك في زمن إبراهيم عليه السَّلام { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ * } إذاً يشركون شرك تقليد، وهذه الأنواع الخمسة للشرك تتعلّق بالظّاهر.
وأما النّوع السّادس فإنه يتعلق بالباطن: وهو الشّرك الخفيّ ( وهو الشّرك الأصغر ) ألا وهو: الرّياء. فالمرائي في ظاهره موحّدٌ لله، لا هو منكرٌ لوجوده، ولا هو معتقدٌ لانقسامه، ولا هو معتقدٌ لتعدّده، ولا هو معتقدٌ لاحتياج واسطةٍ إليه، ولا هو مقلدٌ في شركٍ، إنّما هو موحّدٌ تاركٌ لكلّ أشكال الشّرك الظّاهر، غير أنّه مشركٌ بالله شركاً باطناً [ أخوف ما أخاف على أمّتي الشّرك الأصغر الرّياء ]، [الرّياء أخفى في أمّتي من دبيب النّمل]، وهذا النّوع منه ما يوجب الخلود في النّار، ومنه ما لا يوجب الخلود في النّار، فالرّياء قد يستفحل شأنه فيتحول إلى نفاق، والنّفاق قد يوجب الخلود في نار جهنم لقول الله تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * } ، ولقوله سبحانه: { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ* } كفروا، فاعتبر المنافقين كفّاراً، وأمّا إن لم يستفحل شأن الشّرك الأصغر، ولم يوجب الخلود في نار جهنّم، أي لم يصر نفاقاً أكبر، فإنّ فاعله في المشيئة الإلهيّة، فإن شاء الله تعالى غفر له وأدخله الجنّة، وإن شاء عذّبه في النّار ثمّ أدخله الجنّة، فالرّياء إن لم يكن نفاقاً يوجب الخلود في نار جهنّم، فمثله مثل كبائر الذّنوب تجيز العذاب ولكن لا توجب الخلود، إذاً ( التّوحيد إفراد المعبود بالعبادة ): أي نفي الشّريك له ظاهراً وباطناً.
( مع اعتقاد وحدته ): هذا هو البند الثّاني في هذا التّعريف ( الجملة الثّانية، الفقرة الثّانية )، والاعتقاد هو: الجزم واليقين المطابق للواقع. وهذا ينفي نوعين من المعرفة، النّوع الأوّل: الجزم بمعرفةٍ خاطئة. والنّوع الثّاني: الشّكّ بمعرفةٍ صحيحة. يعني: من اعتقد وجزم بمعرفته بأنّ الشّمس تشرق من الغرب، فهذا لا نقول يعتقد - هو يجزم ولكنّ جزمه غير مطابق للواقع - لذلك نقول: إن يظنّ إلا ظنّاً. هذا لا يعتقد، وإن كان يجزم؛ ولكنّ جزمه غير مطابقٍ للواقع، بالمقابل فلان يعلم أنّ الشّمس تشرق من الشّرق، ولكنّه ليس متأكّداً من ذلك، نقول: أيضاً هذا لا يعتقد، لأنّ معرفته مطابقةٌ للواقع؛ ولكنّها لم ترتقِ إلى درجة الجزم، فالاعتقاد هو الجزم المطابق للواقع، فلا بدّ من اعتقاد وحدة الله تعالى، والاعتقاد هو أعلى درجات المعرفة، لأنّ الاعتقاد معرفةٌ منعقدةٌ بالقلب، أي مرتبطةٌ به كما نقول: عقد عقدةً أي ربط ربطةً، فالعقد هو الرّبط في اللّغة، لذلك سُمّيت العقيدة عقيدةً لأنّها مرتبطةٌ بالقلب والجَنَان ارتباطاً وثيقاً لا ينفصم، عروة هذا الفكر وعروة هذا المبدأ بالقلب عروةٌ وثيقة لا تنفك، لذلك سُمّيت عقيدة من العقد من الرّبط والثّبات، ففي ذلك معنى الثّبات. والمعرفة درجات، فأدنى درجاتها الإنكار وهي ضدّ المعرفة، ثمّ إذا ترقَّى العبد من الإنكار وهي أقصى السّالب باتجاه الموجب فسوف يصل إلى الشّكّ، ثمّ إذا ترقَّى فسوف يصل إلى الظّنّ، ثمّ إذا ترقى فسوف يصل إلى العلم، والعلم درجات كذلك؛ فهناك علم ظنّي وهنالك علم يقينيّ، الخلاصة: أنّ الّذي يُوجب ويُثبت بخلاف الّذي يُنكر ويُنفي، إمّا أن يكون ظانَّاً وإمّا أن يكون موقناً، والظّنّ هنا بمعنى الشّكّ، لأنّ الظّنّ في اللّغة ضدّ، والأضداد هي تلك الكلمات الّتي تفيد المعنى ونقيضه، تفيد المعنى وعكسه، كما في قول الله تعالى: { إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * } ، فالوعظ هنا جاء بمعنى النّهي، ففعل ( وعظ ) يأتي بمعنى أَمَرَ ويأتي بمعنى نهى، فهو من الأضداد إذاً، وكذلك فعل ( الظّنّ ) من الأضداد يأتي بمعنى الشّكّ، كما في قوله تعالى: { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * } ، وكما في قوله { وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } ، وقد يفيد عكس ذلك، يفيد اليقين كما في قول الله تعالى { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * } ، وكما في قوله { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ * } أي أيقنت واعتقدت وجزمت، فالظّنّ بمعنى الشّكّ ضدّه اليقين.
واليقين مع هذا درجات: فهناك علم اليقين، وهناك عين اليقين، وهناك حقّ اليقين. علم اليقين، وعين اليقين، وحقّ اليقين، سئل الإمام علي رضوان الله عليه سؤالاً يتعلّق بهذه الفكرة فأجاب جواباً لطيفاً طريفاً، سئل: ماذا بين علم اليقين وعين اليقين؟ أو كم بين العلم واليقين؟ فقال: ( أربع أصابع ). قالوا: كيف ذلك؟! قال: ( العلم ما سمعته أذناك، واليقين ما رأته عيناك، وليس بين الأذن والعين إلاّ أربع أصابع ). إذاً العلم ما سمعته أذناك، واليقين ما رأته عيناك، وليس بين العين والأذن إلاّ أربع أصابع، فعلم اليقين: ما جزمت به لسماعك إيّاه من مُخبرٍ صادق. وعين اليقين: ما جزمت به لرؤيته ومعاينته. وحقّ اليقين: ما جزمت به لتجربته ومعايشته… يعني: يأتيني رجلٌ لا أشكّ فيه ولا أتّهمه يقول لي: في الحيّ المجاور لحيّكم حريق، بيتٌ يحترق، والنّار تتضرم، والنّاس يتجمّعون حولها، الرّجل صادق ولا أشكّ فيه، فقد علمت علم اليقين أنّ هناك حريقاً فعلاً في الحيّ المجاور، لأنّ الرّجل صادق، ولكن إن ذهبت بنفسي ورأيت الحريق بأمّ عيني فقد رأيته عين اليقين، وأمّا هذا المسكين الّذي يحترق بيته ويحترق هو مع البيت، والّذي تصيبه النّار بلسعاتها، فقد علم حقّ اليقين أنّ هنالك ناراً في بيته، لأنّه عايشها ولأنّها أحرقته، نحن الآن نعلم بالجنّة والنّار علم اليقين، يوم القيامة سوف نرى الجنّة والنّار عين اليقين، ثم إذا دخلنا الجنّة بفضل الله فسوف نعلمها حق اليقين، { كلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * } أي في الدّنيا لترونّها أمامكم في الدّنيا، قال: { ثُمَّ } - يعني يوم القيامة - { لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * } ، إذاً في الدّنيا نعلمها علم اليقين وفي الآخرة نراها عين اليقين، فاليقين إذاً مرتبةٌ عاليةٌ من مراتب المعرفة، وأعلى اليقين الاعتقاد، لأنّ الاعتقاد جزم، لأنّ الاعتقاد قطعٌ، ولأنّ الاعتقاد تسليمٌ مطلق.
إذاً التّوحيد هو ( إفراد المعبود بالعبادة، مع اعتقاد وحدته ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً )، ذات الله تعالى واحدٌ، بحيث لا قسيم له، صفات الله تعالى واحدٌ فيها بحيث لا نظير له، أفعال الله تعالى واحدٌ فيها بحيث لا شريك له، فتوحيد الذّات: نفي القسيم عن الله تعالى. وتوحيد الصّفات: نفي النّظير لله سبحانه وتعالى. وتوحيد الأفعال: نفي الشّريك لله تعالى.
قال هنا يتكلّم المناطقة والمتكلّمون بنوعين للتّوحيد: توحيدٍ يتجلّى بنفي الكمّ المنفصل، وتوحيدٍ يتجلّى بنفي الكمّ المتّصل. فيقولون: توحيد الله تعالى ذاتاً. أي نفي القسيم عن الله تعالى بحيث: إنّ ذاته لا تشبهها ذوات المخلوقين؛ فهذا نفيٌ للكمّ المنفصل عن ذات الله، وبحيث: إنّ ذاته غير قابلةٍ للانقسام بذاتها، وليست مركبةً من أجزاء؛ وهذا نفيٌ للكمّ المتّصل، أي ليست ذاته متعددةً في ذاتها، وليست ذاته مُشبَهةً من سواها. فنفيٌ للكمّ المتّصل وللكمّ المنفصل.
وكذلك توحيد الصّفات، فيقال: إنّ صفات الله تعالى لا تشبهها صفات المخلوقين، فهذا نفيٌ للكمّ المنفصل عن صفات الله تعالى، وبحيث إنّ قدرته قدرةٌ واحدة غير مجزّأة، وبحيث إنّ علمه علمٌ واحد غير مجزّأ ( يعني غير مؤلّف من معلومات ) السّبب؟: قال: السّبب أنّ المعلومات الّتي نحن نعلمها محدودة ( لها حدود ) وعلم الله تعالى لا حدود له، فعلمه واحدٌ غير مجزّأ، فهذا نفيٌ للكمّ المتّصل عن صفات الله تعالى، إذاً صفاته لا تشبهها صفات المخلوقين هذا نفيٌ للكمّ المنفصل، وصفاته واحدةٌ لا تتعدّد (أي كلّ صفةٍ من صفاته واحدةٌ لا تتعدّد) فهذا نفيٌ للكمّ المتّصل.
أفعاله لا تشبهها أفعال المخلوقين، إن أطلق مجازاً على الإنسان كلمة خالق، فليس خلقه كخلق الله تعالى، الله تعالى قد أثبت في القرآن الكريم الخلق لعباده، ونفى الخلق عن عباده في موضعين متغايرين ( دلالة في الظّاهر ) فيتوهّم القارئ للقرآن أنّ بين الآيتين تناقضاً، فيقرأ قول الله تعالى: { اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * } فهذا نفيٌ لصفة الخالقيّة عن غير الله تعالى، ثم يقرأ الآية الأخرى، الله تعالى يقول فيها: { فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * } الله أكبر «خالق ولاّ خالقين بعدين؟!» هل هو خالقٌ واحد أم إنّ الخالقين يتعدّدون؟، ثمّة تناقضٌ ظاهرٌ بين الآيتين ولكن لا تناقض { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً * } أي تناقضاً بين آياته، أما وهو من عند الله فلا تناقض ولا اختلاف، من هنا نعلم أنّ الخلق في الآيتين جاء بمعنيين مختلفين، فالخلق يكون حقيقيّاً ويكون مجازيّاً، فالخلق المجازيّ: هو جمع أجزاءٍ إلى بعضها لتكوين شيءٍ جديد. بحيث إنّ البنّاء خالق، يجمع الأحجار فيخلق منها بناءً؛ وبحيث إنّ النّجّار خالق، يجمع الأخشاب فيخلق منها خزانة، يخلق منها طاولة، يخلق منها كرسيّاً؛ بحيث إنّ الخيّاط خالق، يؤلف أجزاء القماش على بعضها فيخلق منها ثوباً، يخلق منها بنطالاً، يخلق منها قميصاً، هذا خلق ولكنّه خلق مجازيّ. وأمّا الخلق الحقيقيّ فهو: إيجاد شيء من العدم…، الآن إذا أتينا بكلّ المخترعين العِظام في العالم، جمعناهم في صعيدٍ واحد، وقلنا لهم: يا عباقرة ويا جهابذة ويا فطاحل العلم نريد منكم (لا نريد سيّارات ولا طيّارات ولا قنبلة نوويّة) نريد منكم قطعة طباشير فقط. يقولون: نحن نخترع الطّائرات والسّيّارات تريدون فقط قطعة طباشير؟! نقول: نعم، ولكن بشرط ألاَّ تكون عندكم موادّ أوّليّة، لن نعطيكم حوّاراً، ولن نعطيكم رملاً، ولن نعطيكم حجراً ولا كلساً، ومع ذلك نريد قطعة طباشير « إي منين بدنا نجيبها بيقولوا، من وين بدنا نجيب الطّباشير إذا ما في عنا مواد أوّليّة لصنع الطّباشير، بنقولون مو أنتو عباقرة ومو أنتو خالقين طيب » اخلقوا لنا قطعة طباشير، اخلقوا لنا حصاةً، بل لقد تحدّاهم النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام بأصغر من ذلك فقال: [ فليخلقوا ذرّةً وليخلقوا حبّةً وليخلقوا شعيرةً ] تحدّاهم الله بالذّبابة { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ }… كلّ مخترعي العالم « ما بي يقدروا يخلقوا لنا ولا دبّانه واحدة » {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ *} معنى ذلك أنّ أفعالنا ليست كأفعال الله تعالى، أفعالنا خلقٌ مجازي، وأمّا أفعال الله تعالى فإنّها خلقٌ حقيقيّ؛ إيجادٌ من العدم، نحن لا نستطيع أن نُوجِدَ من العدم، الله يُوجِدُ من العدم، كذلك نحن لا نستطيع أن نعدم الوجود، أمّا الله فَيُعْدم بعد وجود، يعني بمعنى: الله تعالى أبدع الكون من لا شيء، يعني الله تعالى خلق الإنسان من طين « والطّين منين أجا؟ » من لا شيء، من العدم، خلق الله السّماوات والأرض من لا شيء، فهل الّذي يُوجد من العدم ( ألا يستطيع أن يعدم بعد الوجود؟ ) بلى، نحن لا نستطيع لا أن نوجد ولا أن نعدم، يعني إذا أتينا بكلّ مخربيّ العالم، وبمخترعي القنبلة النّوويّة الّتي تخرب الدّنيا، وقلنا لهم: لا نريد منكم لا أن تدمروا بناءً، ولا أن تدمروا قريةً، ولا أن تدمروا "هيروشيما" و"ناغازاكي"، لا نريد منكم ذلك كلّه «عنّا بس قطعة طباشير إلغوا لنا إياها» ألغوها « إي شلون بدنا ننلغيها؟ بيقول لي واحد: بسيطة هه هي المطرقة، ما بدا مطرقة بإيدي. عملها هيك لغاهها، قلنا له: لأ ما التغيت » تحولت إلى مسحوق ناعم « قال: طيب إيش نا نساوي؟ قال: طيب هه شلناها وغطيناها بالمي راحت ما بقى تبيّن طاول. قلنا له: لأ، وزين كاسة المي قبل ما تغطّ فيها الطّباشيرة، ووزنها بعد ما غطّيت فيها الطّباشيرة بتلاقيها زادت، زادت وزن الطّباشيرة لأنُّ الطّباشيرة ما التغت، تحولت لشكل آخر، انحلّت في الماء. إينا إنسان مدمّر بيقدر يلغي شيء بعد الوجود؟ » الله تعالى يوجد من العدم ويعدم بعد الوجود، يوجد المعدومات ويعدم الموجودات، لذلك فأفعاله لا تشبهها أفعال المخلوقين، إذاً أفعال الله لا تشبهها أفعال المخلوقين، فهذا نفيٌ للكمّ المنفصل عن أفعال الله تعالى، وأمّا الكمّ المتّصل فلا يُنفى مع الأفعال، بمعنى أنّ أفعال الله تعالى تتعدّد، فالله يخلق سماءً ويخلق أرضاً، يخلق إنساناً ويخلق بهيمةً، يخلق خيراً ويخلق شرّاً، يخلق هواءً ويخلق ماءً، تعدّد الأفعال هذا يثبت الكمّ المتّصل في أفعال الله تعالى.
( إذاً إفراد المعبود بالعبادة، مع اعتقاد وحدته ذاتاً ) بنفي الكمّ المنفصل والمتّصل، ( وصفاتٍ ) بنفي الكمّ المنفصل والمتّصل، ( وأفعالاً ) بنفي الكمّ المنفصل وإثبات الكمّ المتّصل، هذا هو أحد تعريفات علم التّوحيد (التّوحيد لا كعلم)، إذاً التّوحيد اصطلاحاً: إفراد المعبود بالعبادة، مع اعتقاد وحدته ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً.
وأمّا التّوحيد بمعنى الفنّ المدوّن العلم المحدث المخترع، فما هو هذا العلم؟ قال: ( هو العلم بالعقائد الدّينيّة عن الأدلّة اليقينيّة )…
تعريفٌ آخر له: ( هو العلم بما يجب لله وما يجوز وما يستحيل، وما يجب للرّسل والأنبياء وما يجوز وما يستحيل، والعلم بالمعاد (( أحوال المعاد )) وسائر الممكنات ).
يعرّف علم الكلام كذلك: ( بأنه علمٌ يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة العقليّة، وردّ شبه المنحرفين في العقيدة عن عقيدة السّلف وأهل السّنّة…)، ( الحجاج: أي المجادلة )، هذا هو المبدأ الأوّل من المبادئ العشرة، ألا وهو: حدّه، حدّ علم التّوحيد
مـنْ رَامَ فنّــاً فاليُقــدِّمْ أوّلا * عِلمـاً بحـدِهِ وموضـوعٍ تَـلا
المبدأ الثّاني: هو الموضوع، موضوع علم التّوحيد هو: ذات الله تعالى، لذلك كان أشرف العلوم لأنّ موضوعه أشرف الموضوعات.
المبدأ الثّالث: واضعه ( وواضـعٍ ) وواضعُ علم التّوحيد ( الفنّ المدوّن المُحدث ) هم الأشاعرة والماتُريديّة.
والأشاعرة نسبةٌ إلى الإمام أبي الحسن الأشعريّ، والإمام أبو الحسن الأشعريّ من نسل سيّدنا أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، الإمام أبو الحسن الأشعريّ: هو إمام أهل السّنّة والجماعة، وقد ظهرت مبادئه في العقيدة في القرن الثّالث رحمة الله عليه، وقد توفي عام ثلاث مئةٍ وأربعةٍ وعشرين للهجرة، وقيل ثلاث مئةٍ وثلاثين والأوّل أصحّ.
وأمّا الماتُريديّة: فإنّهم نسبةٌ إلى الإمام أبي منصور الماتُريديّ، و"ماتُريد" بلدةٌ "بسمرقند"، وقيل ضاحية من ضواحي "سمرقند"، نُسب إليها أبو منصور رحمة الله عليه، وقد تُوفي أبو منصور عام ثلاث مئةٍ وثلاثةٍ وثلاثين للهجرة، فهما متعاصران إذاً، والأشاعرة والماتُريديّة هم أهل السّنّة، وهم ضدّ لأهل البدعة
وأهل البدعة كثر، منهم الشّيعة، الرّافضة، ومنهم المرجئة، ومنهم الجهميّة، ومنهم الجبريّة، ومنهم المعتزلة، ومنهم القدريّة، فهؤلاء كلّهم أصحاب بدع في العقيدة، ردَّ على بدعهم الأشاعرة والماتُريديّة، ردَّ على بدعهم الإمام أبو الحسن الأشعريّ، والإمام أبو منصورٍ الماتُريديّ.
طبعاً بين أهل السّنّة وبين أهل البدع اختلافات كثيرة في العقيدة، وبين الإمام أبي الحسن الأشعريّ والإمام أبي منصور الماتُريديّ بعض الاختلافات، ولكن الاختلافات بين الأشاعرة والماتُريديّة مقدور عليها ( اختلافات بسيطة ) بخلاف الاختلافات الأخرى بين أهل السّنّة ككلّ وأصحاب البدع، فإنّها اختلافاتٌ عظيمةٌ يمكن أن تكفّر في بعض الأحيان، ( أن تكفّر أهل البدع لشدّة اختلافاتهم مع أهل السّنّة ).
طبعاً المسائل الّتي يختلف فيها الأشاعرة عن الماتُريديّة مسائل قليلة، قال بعضهم: هي ثلاث مسائل. وأوصلها بعضهم إلى ثلاث عشرة مسألة، إذاً هي كلّها مسائل لا تضرّ ( لا تؤدي لا إلى تكفيرٍ، ولا إلى تفسيقٍ، ولا إلى تبديع ) يعني الأشاعرة لا يتّهمون الماتُريديّة في المسائل الّتي يختلفون معهم فيها بأنّهم مبتدعون أو كفرة أو فسّاق، والماتُريديّة بالمقابل لا يتّهمونهم بذلك.
أهل السّنّة كلّهم أشاعرة وماتُريديّة، إلاَّ بعض الحنابلة الّذين مالوا إلى الأخذ بظاهر الدّليل وتركوا التّأويل، فخرجوا بذلك عن مذهب أهل السّنّة.
طبعاً المذاهب الفقهيّة مرتبطة بعض الشّيء بمذاهب التّوحيد ( مذاهب العقيدة ) « لأنُّ » طريقة التّفكير الّتي يفكّر بها الإمام في أمور العقيدة هي ذاتها يفكّر بها في أمور الفقه والشّريعة.
لذلك فإنّ الحنفيّة في المذهب الفقهي كلّهم ماتُريديّة، الّذين ينتسبون في الفقه إلى مذهب الإمام الأعظم - إمامنا الإمام أبي حنيفة النّعمان - ينتسبون إلى الإمام أبي منصور الماتُريديّ في العقيدة، بل إنّ أبا منصورٍ الماتُريديّ قد أخذ علم العقيدة الّذي دوّنه في الكتب عن الإمام أبي حنيفة ( بالرّواية ) « لأنه هو » ما رأى الإمام أبا حنيفة، بينه وبين الإمام أبي حنيفة ما يقرب من مئتي سنة، الإمام أبو حنيفة توفّي عام مئةٍ وخمسين، وهذا توفي عام ثلاث مئةٍ وثلاثةٍ وثلاثين، ولكن الرّوايات الّتي وردته عن أبي حنيفة اقتبس منها علم التّوحيد، فكان أبو منصورٍ الماتُريديّ حنفيّاً في عقيدته، إذاً الأحناف ماتُريديّةٌ غالباً.
وبالمقابل الشّافعيّة والمالكيّة أشاعرة، الّذين ينتسبون في الفقه إلى مذهب الإمام مالك وإلى مذهب الإمام الشّافعي؛ ينتسبون في العقيدة إلى مذهب الإمام أبي الحسن الأشعريّ.
وأمّا الحنابلة فإنّ معظمهم أشاعرة قلنا إلا بعضهم - وهم السّائدون الآن الّذين يُسَمَّون بالسّلفيّة - فإنّهم لا يأخذون لا بقول أبي الحسن الأشعريّ ولا بقول أبي منصور الماتُريديّ، بل إنّهم يسيئون في كثير من الأحيان إلى أبي الحسن الأشعريّ، لأنّه استخدم التّأويل فيما يتعلّق بالصّفات، فيما يتعلّق مثلاً باليد، فيما يتعلّق بالصّفات الّتي توهم التّجسيم والتّشبيه لله تعالى، ولأنّه قال في كلام الله تعالى: (إنّه كلام حسيّ ونفسيّ، فالكلام النّفسيّ قديم والكلام الحسيّ مخلوقٌ حادث)، أيضاً عابوا عليه ذلك وأساؤوا إليه، وهو رضوان الله عليه فوق ما قالوا وفوق ما تجنّوا وأساؤوا…
إذاً واضع علم التّوحيد: الأشاعرة والماتُريديّة.
فأمّا الإمام أبو الحسن الأشعريّ فقد ألّف في هذا العلم كتباً جليلة منها: (الإبانة عن أصول الدّيانة)، ومنها (مقالات الإسلاميّين واختلاف المصلّين)، وغير ذلك مما بيّناه في درسنا الماضي بفضل الله تعالى.
وكذلك أبو منصور رحمة الله عليه فقد ألّف ( المقالات ) وألّف غيرها، إذاً هذا المبدأ الثّالث: واضع علم التّوحيد.
المبدأ الرّابع: اسم علم التّوحيد، اسم علم التّوحيد طبعاً ( علم التّوحيد ) ولكن له أسماء أخرى… فهو يُسمّى فضلاً عن علم التّوحيد يُسمّى: علم أصول الدّين، ويُسمّى علم العقائد… وغير ذلك، وكلّ اسم من هذه الأسماء له براهين وأدلّة.
علم التّوحيد: سُمّي بذلك لأنّ فيه مسائل كثيرة ولكنّ أهم مسائله: مسألة توحيد الله سبحانه وتعالى، وكأنّ هذه التّسميّة ردٌّ على المعتزلة؛ لأنّ المعتزلة سمّوا أنفسهم: أصحاب العدل والتّوحيد؛ ولم يسمّوا أنفسهم المعتزلة، خصومهم سَمَّوهم المعتزلة، وذلك لقول الحسن البصري عندما ترك واصل بن عطاء - وهو إمام المعتزلة - ترك حلقته قال: ( اعتزلنا واصل ) فسمّوا المعتزلة، وهناك أقوال أخرى أتينا على ذكرها في درسنا الماضي بفضل الله، فهم لم يكونوا يَتَسَمَّون بالمعتزلة، إنّما يُسَمَّون بهذا الاسم ولا يَتَسَمَّون به، وإنّما كانوا يَتَسَمَّون: أصحاب العدل والتّوحيد.
لم تسمّوا بأصحاب التّوحيد؟ قال: لأنّهم زعموا أنّهم ينزهون الله عن الشّريك، بما فيه القرآن، وبما فيه صفاته سبحانه وتعالى…! فأنكروا صفات الله القديمة؛ فقالوا: إنّ الله قديم بذاته، وأمّا الصّفات فليست له صفات قديمة « طيب شلون مو الله عليم؟ يعني الله ما كان عليم وبعدها علم. قال لأ » الله عليم من الأزل، ولكن عليم بغير علم، وقدير بغير قدرة، وقويّ بغير قوة، ومتكلّم بغير كلام « الله أكبر إي إشّو هال اللّف والدّوران؟!! » قال: علمه هو ذاته وليس له علمٌ غير ذاته!.
أمّا أهل السّنّة فقد قالوا: الله متكلّم بكلامٍ قديم، وعليمٌ بعلم قديم، وعلمه ليس ذاته؛ وليس غير ذاته « يعني هذا كلام بصير واحد ما يستوعبه منطقيّاً، يأخذه على حاله، عب يقصدوا ليس ذاته من شان ما ينكروا صفات الله تعالى متل المعتزلة، المعتزلة قالوا: العلم هو الذّات » الله عليمٌ بعلمٍ هو هو أي علمه هو ذاته، وقديرٌ بقدرةٍ هي هو أي قدرته هي ذاته « لأ قالوا: لأ قدرته ماي ذاته وعلمه ماو ذاته، علمه علمه، العلم اسمه علم، إي قال: طيب إذا ننقول كمان العلم هو غير الذّات بدنا نوقع بالشّرك، بدو يصير في ذاتين، ذات الله والعلم منفصل عن ذات الله واتنينتون قديمين بدون يصير شرك، لذلك قالوا: لأ » الصّفة ليست هي الذّات، وليست غير الذّات، إنّما هي قائمةٌ بالذّات، ليست الصّفة عين الذّات، وليست الصّفة غير الذّات، إنّما هي قائمةٌ بالذّات، إذاً « هدول المعتزلة سمّوا أنفسهم أصحاب التّوحيد على أساس » ينزّهون الله عن الشّريك الّذي هو صفة الله، فينكرون صفات الله تعالى، فردّ عليهم علماء أهل السّنّة بأن سمّوا علمهم علم التّوحيد « كأنّي عب قولوا لهم »: نحن نثبت صفات الله تعالى ومع ذلك نوحّده، بل إنّنا نوحده أكثر ممّا توحدونه.فلأنّ توحيد الله هي المسألة الأهم في هذا العلم صار اسمه علم التّوحيد.
من أسمائه أيضاً كما قلنا: علم أصل الدّين… وذلك لأنّ الدّين « طبعاً كلمة الدّين بقا بدنا نعرف إشّي هدا الدّين » الدّين في اللّغة يطلق على العادة، يُقال: فلانٌ دينه وديدنه أن يقترض من النّاس ولا يوفي القروض. أي عادته ودأبه؛ فالدّين هنا هو العادة، ويطلق أيضاً على كلّ شريعة يتدين المرء بها حتّى ولو كانت باطلةً، وأمّا في المعنى الاصطلاحي فإنّ الدّين يُعرّف بأنه: وضعٌ إلهيٌّ سائقٌ لذوي العقول السّليمة باختيارهم المحمود لما هو خيرٌ لهم بالذّات.
الإمام الجرجانيّ اختصر التّعريف فقال: هو وضعٌ إلهيّ يسوق أرباب العقول إلى قبول ما عند الرّسول…
وأمّا التّعريف الاصطلاحيّ المتّفق عليه إذاً فهو: وضعٌ إلهيّ، إذاً « هي أوّل مسألة إنُّه الدّين من وضع الله تعالى، معناها بالمعنى الاصطلاحي البوذيّة ما اسمها دين، الهندوسيّة ما اسمها دين، ما بصير نقول: أديان الهنود: البوذيّة والهندوسيّة والكونفوشيّة وووو… هي ماي أديان لأنّ الدّين وضع إلهي وهدا ما وضع إلهيّ هدا من وضع البشر »، قال: وضعٌ إلهيٌّ سائقٌ لذوي العقول السّليمة « الإنسان العاقل هو اللّي بيستوعب هالدّين وبيتبعُه وبيطيعُه، غير العاقل ما بيسمع كلمة » يعصي أوامر هذا الدّين ويرتكب نواهيه « قال: هذا الدّين لوين بيسوقون لذوي العقول السّليمة، قال: بيسوقون » إلى ما هو خيرٌ لهم بالذّات، وباختيارهم، وضعٌ إلهيٌّ سائقٌ لذوي العقول السّليمة باختيارهم المحمود إلى ما هو خيرٌ لهم بالذّات، أي إلى ما هو خيرهم الذّاتيّ، أي سعادتهم وقمّة نفعهم في الدّنيا بأن يرتبطوا بالله الخالق ويرضوه، وفي الآخرة بأن يضمنوا رضا الله تعالى ويضمنوا الجنّ.
هذا الدّين كما قال العلماء: أصلٌ وفرع؛ فالأصل هو المعرفة، والفرع هو الطّاعة… فعلم الكلام أو علم التّوحيد أو علم أصول الدّين يتعلّق بالأصول أي بالمعارف، وعلم الفقه يتعلّق بالفروع أي بالطّاعات. يعني إذا الإنسان كان الأصل عنده صحيحاً؛ أي كانت عقيدته سليمة، وكان الفرع عنده فاسداً؛ أي لم يعبد الله تعالى بالعبادات السّلوكيّة وبالطّاعات التّطبيقيّة، وواحد آخر كان أصله فاسداً (عقيدته فاسدة) ولكن كانت فروعه سليمة صالحة، فأيّهما خير؟ طبعاً صاحب الأصل السّليم والفرع الفاسد خيرٌ من صاحب الأصل الفاسد والفرع السّليم، «صاحب الأصل السّليم والفرع الفاسد إيش منسمّيه؟ منسمّيه فاسق، بس مؤمن» مؤمنٌ فاسق، أمّا صاحب الأصل الفاسد والفرع السّليم « هدا كافر » الخوارج مثلاً، الخوارج أصلهم فاسد، يعني عقيدتهم فاسدة « بيحملوا عقيدة عجيبة غريبة، ما بيعيفوا حدا من شرّهم، إي بكفرّوا الصّحابة كلّهم على بعضهم، عليّ عندهم كافر، معاوية كافر، عمرو بن العاص كافر، أبو موسى الأشعريّ كافر، كلّ هال البشر كفّار، كلّهم ما بيزبطوا معهم، بدون يقتلوهم ويرتاحوا من هال الكفر، واحد يسمع هال الأقوال بيقول: إيش هال الإنسان؟ أكيد الإنسان اليّ بيعتقد بهال العقيدة، اللّي بيقول عن سيّدنا عليّ بن أبي طالب عليه رضوان الله إنّه كافر، أكيد هدا يشرب الخمر وبيزني وبيلعب قمار وما بيعيف شغلة تعتب عليه، لأ لأ لأ لأ أبداً الخوارج بيصلوا وبيصوموا » بل قال فيهم النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام: [ تَحقِرون صلاتكم مع صلاتهم وقرآنكم مع قرآنهم ]، عبد الرّحمن بن ملجم المراديّ التّجيبيّ الملعون - قاتِل سيّدنا عليّ بن أبي طالب - « لمّا جابوا بدون يقتلوه » كان لسانه لا يفتر عن ذكر الله « يعني ببالُه أنُّه تقرّب إلى الله تعالى قربة كتير كبيرة لمّا قتلُه لسيّدنا عليّ، إذاً هدول فروعهم كتير جيدة بس أصولهم فاسدة » فلا تنفعهم أعمالهم مع فساد عقيدتهم، وقِس على ذلك « ناس كتيرين يحمل أفكار والعياذ بالله، أفكار كفر » كفر بواح « بطّلع عليه مسبحته بإيده ما بيتركها، وبصلي قيام اللّيل، تهجد لآخر اللّيل، صلاة الضّحى، النّوافل » لا يدع نافلة إلاّ ويصليها « بيصوم كلّ يوم، بيصوم صيام داوود » بأقلّ حدّ، هذا كلّه لا ينفعه مع فساد عقيدته، إذاً العقيدة أصل والطّاعة فرع، فعلم التّوحيد متعلّقٌ بالأصول، وعلم الفقه متعلّقٌ بالفروع، لذلك سُمّي علم التّوحيد: علم أصول الدّين، كما قال الإمام اللّقّانيّ في ( جوهرة التّوحيد ):
وبعدُ فالعلـمُ بأصـلِ الدّيـنِ * محتّــمٌ يحتـاجُ للتّبييــنِ
« لاحظ إيش قال »: ( وبعدُ فالعلـمُ بأصـلِ الدّيـنِ ) يعني العلم بالتّوحيد والعقيدة، وكذلك قال شهاب الدّين أبو العبّاس المقَّريّ في ( إضاءة الدُّجنَّة في عقائد أهل السّنّة )، فقال:
وعلمُ أصلِ الدِّينِ مشهورُ الشَّرفْ * وخيرهُ المنثـورُ ما لـهُ طـرفْ
وكيفَ لا وهـوَ المفيـدُ للـورى * علمـاً بمـنْ أنشأهُـمْ وصـوَّرَا
وحكمُـهُ علـى البرايـَا انحتمَـا * وبالنّجـاةِ فـازَ منْ لـهُ انتمَـى
( وحكمُـهُ علـى البرايـَا انحتمَـا ): أي وجب ولزم
* وبالنّجـاةِ فـازَ منْ لـهُ انتمَـى
لأنَّــهُ بنـورهِ ينقــذُ مــنْ * ظلمـةِ تقليـدٍ فنفعَـهُ ضمِــنْ
إذاً لاحظ ماذا سمّاه هؤلاء الأئمّة « الإمام اللّقّانيّ قال »:
وبعدُ فالعلـمُ بأصـلِ الدّيـنِ * محتّــمٌ يحتـاجُ للتّبييــنِ
الإمام المقَّريّ قال: ( وعلمُ أصلِ الدِّينِ مشهورُ الشَّرفْ ) إذاً هذا هو الاسم الثّاني، يُسمّى علم التّوحيد ويُسمّى: علم أصول الدّين، أو علم أصل الدّين.
الاسم الثّالث يُسمّى بعلم العقائد أو علم العقيدة، وذكرنا معنى العقيدة، العقيدة: هي العلم الّذي ينعقد بالقلب انعقاداً؛ أي يكون جزماً مطابقاً للواقع. الاعتقاد: هو الجزم المطابق للواقع.
يُسمّى اسماً رابعاً هو علم الكلام، وعلم الكلام قد يدلّ على المدح وقد يدلّ على الذّم، ولكن هو أصله يدلّ على المدح، فلماذا سُمّي علم الكلام؟ قيل لأنّ هذا العلم يحتاج إلى كلامٍ كثير، يحتاج إلى أدلّة منطقيّة، وإلى أخذ وردّ، ومقدمات ونتائج، مقدمات صغرى، مقدمات كبرى وبعدها النّتائج، يحتاج إلى مماحكات منطقيّة وإلى محاكمات عقليّة، يحتاج إلى سماع الشّبهات وردّ الشّبهات… « فيُّه أخد وردّ كتير، فيُّه حكي، ولف ودوران » فلذلك سُمّي علم الكلام.
قول ثاني « إنُّه قال: سُمّي علم الكلام » لأنّ فيه مسائل كثيرة، ولكن أهم مسألةٍ تكلّم العلماء فيها هي مسألة كلام الله، القرآن كلام الله، هل هو مخلوقٌ أم غير مخلوق؟؛ فقال المعتزلة وقال الشّيعة: كلام الله مخلوق. وقال أهل السّنّة: كلام الله قديم غير مخلوق. فلأنَّ الفتنة العظيمة في العصر العبّاسي نشأت حول مسألة خلق القرآن، أي حول كلام الله تعالى هل هو مخلوق أم لا؟، سُمّي العلم كلّه علم الكلام، من باب نسبة الكلّ إلى الجزء.
كما سُمّي علم التّوحيد، قول ثالث: إنّه سُمّي علم الكلام من باب الذّم « لأن الحكي الكتير الله ما بيحبه، فهدول أعداء علم الكلام أو المنتقدين لهم قالوا: الكلام الكتير الله ما بيحبه » [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ] « لا تكتروا حكي، هدا الكلام بيدل على أنّه أنتم مذمومين » فقال بذلك الإمام الغزالي حجّة الإسلام أبو حامد فقال: ( سُمّي هذا العلم علم الكلام لأنّ بضاعة تشقيق الكلام والتّصنّع فيه تكاد تكون رأس مال هذا العلم وسلاحه ) فلذلك سُمّي علم الكلام.
والإمام الغزالي رحمة الله عليه قد مرّ في حياته بمراحل، عندما بدأ بالتّخصّص بعد فترة الطّلب تخصّص في علم الكلام والفلسفة، ورفع من شأن الفلسفة وأهلها في كتابه الجليل: ( مقاصد الفلاسفة )، ثمّ تحوّل عن الفلسفة إلى الفقه، ثمّ عن الفقه إلى التّصوّف، فأدار للفلسفة ظهر المجن، وصار محارباً لها بعد أن كان منافحاً عنها، وصار دافعاً لحججها بعد أن كان مدافعاً عنها، فألّف كتاباً ينقض فيه كتابه الأوّل ( مقاصد الفلاسفة ) سمَّاه تهافت الفلاسفة، ولكن بالغ الإمام رحمة الله عليه في إنكاره على الفلسفة وأهلها، لأنّ الفلسفة علمٌ لا يكون إلاَّ لأهل الخواص، ومن أخذ من الفلسفة القليل ومن الدّين القليل كفر، من أخذ بعض الدّين ولم يكن متعمقاً في دينه وأخذ من الفلسفة القليل فلا بدّ أن يكفر، أمّا من كان متعمّقاً في الدّين فاهماً لمقاصده موقناً بعقائده، ثمَّ أخذ من الفلسفة جوهرها ولبّها، لا قشورها وظواهرها فإنّه يزداد إيماناً، وقد أحسن في ذلك وأجاد صاحب ذلك الكتاب الجليل: ( كتاب قصّة الإيمان )، الشّيخ نديم الجسر جزاه الله خيراً وأجزل مثوبته، فذلك الكتاب الرّائع البديع (قصّة الإيمان بين الفلسفة والعلم والدّين) يوضح العلاقة الحقيقيّة بين الفلسفة الجوهريّة وبين الدّين الجوهريّ، ويوضح أن من أخذ بعض هذا وبعض ذاك تناقض الأمران عنده، تناقض ظاهر الدّين وظاهر الفلسفة فكفر بسبب ذلك، وأمّا إن غاص في أغوار الدّين ثم أخذ لبّ الفلسفة فلا يكفر.
فالإمام الغزالي أجمل فصار يذمُّ الفلسفة جملةً وتفصيلاً، فردّ عليه الفلاسفة المؤمنون أمثال ابن رشد الّذي ألّف كتاب: ( تهافت التّهافت ) « إشّو هدا تهافت الفلاسفة قال له: لأ » هذا كتابك يتهافت، فألّف تهافت التّهافت، وألّف ابن رشدٍ كذلك كتاباً سماه: (فصل المقال في تقرير ما بين الحكمة والشّريعة من الاتصال)، يعني بين الفلسفة والدّين…
إذاً سُمّي علم الكلام لذلك، أحد هذه الأسباب، وتسمية علم الكلام تسميةٌ حدثت خصوصاً في عصر المأمون، وهذا يدلّ على القول الّذي يقول: إن التّسمية تابعة لخلق القرآن، « لأنُّه » في عصر المأمون خرجت هذه البدعة، فسُمّي العلم الّذي يردّ عليهم بعلم الكلام، أي الّذي أهمّ مسائله مسألة كلام الله هل هو مخلوقٌ أم لا.
قبل أن يُسمّى علم الكلام في عصر المأمون كان يُسمّى: ( علم الفقه في الدّين ). وذلك لأنّ كلمة الفقه تفيد مطلق العلم النّافع كما قال تعالى { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ * } ، وكما قال سيّدنا المصطفى عليه الصّلاة والسّلام في حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما مرفوعاً [من يرد الله به خيراً يفقّهّه في الدّين ويلهمه رشده] يفقّهّه في الدّين: أي في كلّ علوم الدّين « مو بس » في أحكام العبادات والمعاملات « يعني اللّي » تُسمّى فقه مجازاً، وكما في قوله عليه الصّلاة والسّلام لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما [اللّهمّ فقّهّه في الدّين وعلمه التّأويل] فقّهّه في الدّين: أي في كلّ علوم الدّين « مو بس » بعلم العبادات والمعاملات، فكان علم التّوحيد يُسمّى علم الفقه في الدّين، ولنا بذلك دليلٌ بيّنٌ هو أنّ الإمام الأعظم أبا حنيفة النّعمان رحمة الله عليه قد خلّف كتاباً يُنسب إليه في العقيدة مختصراً جداً، مُوجزاً مجملاً، فيه الخلاصة والزّبدة (طبعاً ليست فيه الأدلّة، فيه فقط الأحكام المجملة)، اسمه: (كتاب الفقه الأكبر)، وقد شرحه شرّاحٌ كثيرون شروحاً مسهبةً وشروحاً موجزةً، إذاً تسمية كتاب في التّوحيد بالفقه الأكبر دليل على أنّ كلمة الفقه كانت تطلق على علم التّوحيد في ذلك العصر، والإمام أبو حنيفة لم يدرك عصر المأمون - رحمة الله تعالى عليه - إنّما أدرك عصر أبي جعفر المنصور ( الخليفة العبّاسي الثّاني ) فهذه هي أسماء هذا العلم، فاسمه هو المبدأ الرّابع.
إذاً تكلّمنا عن حدِّه وموضوعه وواضعه واسمه، فأتممنا بذلك مبادئ أربعةً، وندع التّفصيل في المبادئ السّتة الأخرى إلى الدّرس القادم بإذن الله تعالى، والحمد لله ربّ العالمين.
اللّهمّ إنّا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وعملاً صالحاً متقبلاً، ونعوذ بك من علمٍ لا ينفع، وقلبٍ لا يخشع، ونفسٍ لا تشبع، وعينٍ لا تدمع، وعملٍ لا يرفع، ودعاءٍ لا يسمع. اللّهمّ إنّا نسألك علماً نافعاً. اللّهمّ حبّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الرّاشدين. اللّهمّ أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتباعه وحببنا فيه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وكرّهنا فيه، وصلّ اللّهمّ على سيّدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلّم.

الملفات الصوتية
الملف الأول
أرسل هذه الصفحة إلى صديق
اسمك
بريدك الإلكتروني
بريد صديقك
رسالة مختصرة


المواضيع المختارة
مختارات

[حسن الظن بالله]

حسن الظن بالله يعني أن يعمل العبد عملاً صالحاً ثم يرجو قبوله من الله تعالى ، وأن يتوب العبد إلى الله تعالى من ذنب عمله ثم يرجو قبول الله تعالى لتوبته ، حسن الظن بالله هو ذاك الظن الجميل الذي يأتي بعد الفعل الجميل.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام : {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى.}
قال سبحانه في الحديث القدسي :{ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني } أنا عند ظن عبدي بي فإذا ظننت أنه يرحمك وأخذت بأسباب الرحمة فسوف يرحمك ، وأما إن يئست من رحمته وقصرت في طلب أسبابها فإنه لن يعطيك هذه الرحمة لأنك حكمت على نفسك والله تعالى سيحكم عليك بما حكمت أنت على نفسك .