الخطب > خطبة عيد الأضحى، الثُّلاثاء: / 10 / ذو الحجة / 1426 هـ.
خطبة عيد الأضحى، الثُّلاثاء: / 10 / ذو الحجة / 1426 هـ.

أيها الأحبَّة: أنفلونزا الطِّيور مرضٌ مؤذٍ، السَّرطان مرضٌ قاتل، الجلطة القلبيَّة يمكن أن تودِيَ بصاحبها… ولكنَّ كلَّ هذه الأمراض لا تُدخِل نار جهنَّم...............

خطبة عيد الأضحى، الثُّلاثاء: / 10 / ذو الحجة / 1426 هـ ، 10 / 1/ 2006 م.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر.
اللهُ أكبر كبيراً، والحمدُ لله كثيراً، وسبحان الله وبحمده بكرةً وأصيلاً.
الحمد لله نحمده، نستعين به نستهديه نسترشده، نتوب إليه، نتوكَّل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، { مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا * } ، وأشهد أنْ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمَّداً عبده ورسوله خير نبيٍّ اجتباه وهدىً ورحمةً للعالمين أرسله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد:
أيُّها الإخوة والأحبَّة:
في يوم العيد من الدُّروس والعِبَر ما نحن في هذا الزَّمان أحوج ما نكون إليه، يوم العيد ( عيد الأضحى ) يحمل معانِيَ التَّضحية، يحمل معانِيَ الفداء، يحمل معانِيَ الإيثار… هذه القيم الَّتي طالما افتقدناها وحلَّت محلَّها قيمٌ بديلةٌ من الأثرة والأنانيَّة وحبِّ الذَّات وتقديم النَّفس على الآخر في كلِّ شيءٍ فيه خير…
يوم العيد يُذكِّرنا بالفطرة الَّتي خلق الله الإنسان عليها، والَّتي ملؤها الفضائل، ونحن نرى أمامنا واقعاً تجرَّدنا فيه عن الفضائل وحلَّت محلَّها الرَّذائل فيه…
إبراهيم عليه السَّلام المضحِّي الأكبر الَّذي أعطانا رمزاً عظيماً من رموز الفداء والتَّضحية، عندما أمره الله سبحانه وتعالى أن يذبح ولده فِلْذَة كبده؛ فلم يتلبَّث ولم يناقش ولم يعترض…
إسماعيل تربية أبيه يعرف عظمة التَّضحية وأهمِّيَّة الفداء { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى } لم يتردَّد ولم يتلبَّث، لم يناقش ولم يعترض { قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } ، إنْ أردنا أنْ نفهم ما في هذه الكلمات القليلة من معانٍ لاحتجنا إلى مجلَّدات… ولكنَّنا نريد درساً واحداً من هذه الدُّروس، نريد درس التَّضحية.
التَّضحية – أيُّها الأحبَّة – تعني أن تترك شيئاً غالياً عليك كبيراً في نظرك في سبيل شيءٍ آخر، قد تكون التَّضحية في نظرنا ترك شيءٍ بدون مقابل؛ ولكنْ لا يمكن أن يكون هناك شيءٌ يُترك دون مقابلٍ في طبيعة الإنسان، ولكنْ الفرق بين الإنسان العليِّ والإنسان الدَّنيِّ هو الفرق ما بين المقابل الَّذي يبتغيه هذا والمقابل الَّذي يبتغيه ذاك.
المؤمن في أحسن أحواله يعمل من أجل مقابل؛ ألا وهو دخول الجنَّة والنَّجاة من النَّار، وفي أحسن هذه الأحوال يعمل من أجل مقابلٍ أرفع وأعظم؛ ألا وهو الحصول على رضوان الله تعالى، أمَّا أنْ نقول أنَّه يترك ويُضحِّي من دون أن يُفكِّر بمقابلٍ فهذا مستحيل.
التَّضحية إذاً ترك شيءٍ مقابل شيءٍ آخر، والإنسان بطبعه عنده ترتيبٌ تلقائيٌّ للأشياء على حسْب أحجامها وأهمِّيَّاتها، فعندما يرى شيئاً أكبر من شيءٍ آخر يَسْهُل عليه أن يضحِّي بالصَّغير من أجل الكبير، عندما يرى شيئاً ما بخساً خسيساً ويرى شيئاً آخر غالياً نفيساً؛ فإنَّه تلقائيَّاً يضحِّي بالبخس في سبيل الغالي، ولكنْ إذا اختلَّت النَّظرة عنده فرأى الرَّخيص غالياً والغاليَ رخيصاً عندها تَصْعُبُ عليه التَّضحية… كيف يضحي بشيءٍ غالٍ من أجل شيءٍ رخيصٍ؟ في مثل هذه الحالة كيف نحفِّز همَّة هذا الإنسان ليضحِّي بما يملك في سبيل غايةٍ ساميةٍ يسعى إليها؟ كيف نحفِّز همَّته؟ نحفِّز همَّته بأنْ نبيَّن له أحجام الأشياء الحقيقيَّة لا الوهميَّة، بأن نصغِّر في عينه الصَّغير ونكبِّر في عينه الكبير، عندها سيكتشف أنَّه كان مخطئاً عندما تمسك بالصَّغير وفرَّط في الكبير، فعندما يرى الصَّغير صغيراً والكبير كبيراً يقول: ( ما أغباني عندما ضحَّيت بالكبير من أجل الصَّغير؟! الآن سأضحي بالصَّغير من أجل الكبير ).
مثال ذلك: إنسانٌ عنده فائضٌ من المال، ولنفرض أنَّ عنده بيتاً زائداً عن حاجته لا يسكنه، قلنا له: يا هذا لِمَ لا تتصَّدق بهذا البيت الفائض على حاجتك على أسرةٍ مشرَّدةٍ تأوي إلى الشَّارع تأوي إلى الخِرَب لا تجد مكاناً يؤويها، يردُّ عنها حرَّ الصَّيف أو برد الشِّتاء أو شرَّ الأشرار من قطَّاعي الطُّرق والسَّارقين والفاسقين الفجرة…؟ لماذا لا تتصدَّق بهذا البيت الفائض على حاجتك؟ سيفاجأ بهذا الكلام، لو قلنا له: يا هذا أعطنا هذا البيت فإنَّه تلقائيَّاً سيقول لنا: في مقابل ماذا؟ نقول: في مقابل قصرٍ في الجنَّة… فإذا به يشمئزُّ وينصرف ويقول: هذا البيت قد يلزمني في المستقبل، سأزوِّج فيه ولدي عندما يكبر، هذا البيت ضروريٌّ جدَّاً لا أستطيع الاستغناء عنه… لو قلنا لهذا الرَّجل: أعطنا هذا البيت في مقابل مليون ليرة سوريَّة ( وهو في نظره يساوي أقلَّ من ذلك بكثير ) يعطيه أم لا يعطيه؟ يعطيه، بادل شيئاً بشيء، أعطى الشَّيء الرَّخيص من أجل الشَّيء الغالي، لو قلنا له: أعطنا هذا البيت وخذ قصراً في ( منطقة الشَّهباء ) يعطي أم لا يعطي؟ يعطي، لأنَّ بيته في نظره رخيص وذلك القصر في نظره غالي، فقد تصدَّق بالرَّخيص في سبيل الغالي، لكنْ لمَّا قلنا له يعطيك الله قصراً في الجنَّة كأنَّه لم يُصدِّق كأنَّه لم يقتنع بهذا الكلام، ولم يُقْدِم على التَّضحية، ولعلَّ الجنَّة في نظره صغيرة! ولعلَّ بيته في نظره أكبر من الجنَّة! لذلك لم يُقدم على التَّضحية.
أيُّها الأحبَّة: حقيقة التَّضحية ترك شيءٍ صغيرٍ في سبيل شيءٍ كبيرٍ، التَّخلِّي عن شيءٍ رخيصٍ في سبيل شيءٍ غالٍ، فعندما ترى إنساناً لا يُضحِّي بالرَّخيص من أجل الغالي فإنَّما سبب ذلك… ما هو السَّبب الحقيقيُّ؟ قد يقول: السَّبب أنَّني لا أمتلك الهمَّة أنَّني لا أمتلك العزيمة أنَّني لا أمتلك الإرادة… نقول: كلُّ ذلك صحيح؛ ولكنَّ هناك سبباً أهمُّ هو أنَّك لست مقتنعاً بأنَّ هذا رخيصٌ وأنَّ هذا نفيسٌ، لذلك تقول: كيف أضحِّي بالغالي من أجل الرَّخيص؟!.
الدُّنيا كلُّها – أيُّها الأحبَّة – في نظر المسلم الصَّادق رخيصة، ولكنَّها عند أهل الدُّنيا غالية، يحسب حساباً لها ليل نهار، يفكِّر بها في نومه وفي يقظته، يحرص على جمع ما لا يحتاج إليه، ويتمسَّك بما يكون وبالاً عليه… يموت الإنسان وعنده أملاكٌ كثيرةٌ… ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أنَّه لم ينتفع بها في حياته وخلَّفها لورثته لينتفعوا بها هم ويحاسب عليها هو، فما أغبى هذا الإنسان!!
أمَّا في نظر المسلم فإنَّ الدُّنيا رخيصة لا تزن جناح بعوضة… [ لو كانت الدُّنيا تزن عند الله جناح بعوضةٍ ما سقى كافراً منها شربة ماء ] فعندما يقارن بين الدُّنيا والآخرة يرى الدُّنيا رخيصةً جدَّاً، كما يقولون: ( لا تساوي قشرة بصلة ) والآخرة… {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *} فلا يجد صعوبةً ولا يجد تردُّداً ولا يجد مشقَّةً نفسيَّةً في أنْ يتخلَّى عن كلِّ الدُّنيا بكلِّ أريحيَّةٍ وبكلِّ تلقائيَّةٍ في سبيل الآخرة، بكلِّ بساطة يتخلَّى عنها، أمَّا عندما تصعب عليه هذه التَّضحية فلأن الدُّنيا في نظره غالية والآخرة رخيصة… لهذا يقول في عقله الباطن في اللاشعور: ( كيف أتخلَّى عن دنيا غاليةٍ في سبيل آخرةٍ رخيصةٍ؟! )، تقول: ضعف إرادة، نقول: ليس ضعف إرادة؛ بل إنَّه ضعف عقل… لأنَّك ترى الدُّنيا بأكبر من حجمها وترى الآخرة بأصغر من حجمها، لو رأيت الدُّنيا على حقيقتها ورأيت الآخرة على حقيقتها لما احتجت الإرادة ولما احتجت القوَّة النَّفسيَّة لأنَّك – في ذلك الحال – ستسعى إلى مصلحتك.
قال هارون الرَّشيد يوماً ما لرجلٍ من العلماء الصَّالحين الزَّاهدين في الدُّنيا: ( ما أزهدك؟! ) فقال له ذلك العالم الزَّاهد الورع: ( يا أمير المؤمنين أنت أزهد منِّي… )، قال: ( كيف أكون أزهد منك؟! ) قال: ( نعم يا أمير المؤمنين، أنا زهدت في الدُّنيا الفانية، وأمَّا أنت فقد زهدت في الآخرة الباقية، فمن يكون أزهد من الآخر؟ )، أنا زهدت في شيءٍ رخيصٍ لا قيمة له؛ ولكنَّني طمَّاع حريص على الآخرة الغالية على الآخرة النَّفيسة، وأمَّا أنت فإنَّك حريصٌ على شيءٍ رخيص لا يزن جناح بعوضة، وزاهدٌ في جنَّةٍ عرضها السَّماوات والأرض، فمن منَّا الزَّاهد الحقيقيُّ يا أمير المؤمنين؟ أنت الزَّاهد، أنت أزهد منِّي… ( أنا زهدت في الدُّنيا الفانية، وأنت زهدت في الآخرة الباقية ).
عندما يقول لك الله تعالى: ضحِّ ببعض ما تملك في سبيل مَنْ لا يملك، حتَّى أثيبك رضواناً في الآخرة؛ فالله جلَّ وعلا لن يدعك تمدُّ يدك للنَّاس.
أمر الله إبراهيم بأن يذبح ولده لا لأنَّه – سبحانه وتعالى – يحبُّ أن يرى الدِّماء تسيل أمامه ويحبُّ أن يرى الوالد يذبح ولده… لا، قد أمره بذلك امتحاناً له، ولمَّا نجح بالامتحان، وأقدم بكلِّ عزم وإقدام على ذبح ولده الحبيب… قال له الله تعالى: أمسك توقَّف، لقد نجحت في الامتحان، أنا غنيٌّ عن أن تذبح ولدك، أنا غنيٌّ عن أنْ ألوِّعك بولدك وفِلْذَة كبدك، إنَّما أحببت أنْ أرى هل أنت تعرف قدر رضاي؟ وتضحِّي بكلِّ ما تملك في سبيل رضواني؟ أَمَا وقد رأيتك هكذا تضحِّي بأغلى ما تملك حتَّى أرضى عنك فإنَّني سأهبك رضواني وسأترك لك ولدك أيضاً…
هكذا يعامل الله الكريم العبد الفقير، على أنْ يكون هذا العبد الفقير متحقِّقاً بالعبوديَّة، متحقِّقاً بالخضوع والانقياد والاستسلام التَّامِّ للأوامر الله، الله لن يدعك، إذا تصدَّقت بكلِّ ما تملك إرضاءً لله تعالى فهذا لا يعني أنَّك ستصير فقيراً… لا، سيثيبك الله في الآخرة أضعاف ما أنفقت، وسيردُّ الله عليك ما أنفقت في الدُّنيا وزيادة، كما ردَّ الله على إبراهيم ولده لمَّا سلَّم لقضاء الله.
ابتلى الله أيُّوب بأولاده فصبر أيُّوب، وقدَّم رضوان الله على أولاده، وكانت النَّتيجة أنْ رضي الله عنه وردَّ الله له أولاده وضعفهم { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ } تذكَّروا أيُّها الأحبَّة أنَّ التَّضحية بالرَّخيص من أجل الغالي لن تؤدِّيَ إلى خسران الرَّخيص، حتَّى الرَّخيص سيعود إليك، وتكون قد كسبت الغالي النَّفيس.
العيد أيُّها الأحبَّة ( عيد الأضحى ) فيه الأُضْحِيَّة، والأُضحِيَّة تحمل معنى التَّضحية، الأُضحِيَّة ليست مجرَّد إراقة دمٍّ، إنَّما فيها معنى بذل ما نحبُّ وما نملك إرضاءً لله تعالى، تعني بذل ما نملك من رخيص المتاع وسقطه في سبيل رضوان الله وهو الغاية السَّامية النَّفيسة الَّتي من وصل إليها حاز الخير كلَّه، ومن غابت عنه هذه الغاية فهو خاسرٌ ولو كان ملك ملوك الدُّنيا… ( إلهي ماذا وجد من فقدك؟! وماذا فقد من وجدك؟! ) من فقد الله وخسر رضوانه فهو الخاسر ولو كانت الدُّنيا كلُّها طوع بنانه… ومن وجد الله وبلغ رضوانه، فاز بكلِّ شيءٍ ولو كان لا يملك قوت يومه… هو الفائز الحقُّ لأنَّه فاز بالغالي، وإنْ خسر الرَّخيص.
في العيد أيَّها الأحبَّة يكون التَّواصل، والتَّواصل الاجتماعيُّ الَّذي يحصل في العيد مظهرٌ جميلٌ جدَّاً في المجتمع المسلم، ولكنَّ هذا المظهر يبقى ناقصاً ما لم نتمِّمه بتواصل القلوب، لأنَّ الله يحاسب على القلوب قبل أن يحاسب على أعمال الجوارح…
قلوبنا أيُّها الأحبَّة صدأت، وصارت محتاجةً إلى جلاءٍ، اتَّسخت وصارت محتاجةً إلى تنظيفٍ وغسيلٍ، مرضت وصارت بأمسِّ الحاجة إلى علاجٍ ودواء؛ فهلَّا اهتممنا بها؟ أرواحنا مقفرةٌ وأجسامنا شبعى! فهلَّا أعطينا أرواحنا بعضاً من الاهتمام الَّذي نعطيه أجسامنا
يا خادمَ الجسمِ كمْ تشقى لخدمتهِ؟! * أتطلبُ الرِّبحَ فيما فيهِ خسـرانُ؟!
انهضْ إلى الرُّوحِ فاستكملْ فضائِلها * فأنتَ بالرُّوحِ لا بالجسمِ إنسـانُ
في العيد تأخذ الأجسام حظَّها وزيادة، والأرواح تبقى مهملةً كما هي العادة في كلِّ الأوقات، في العيد تتواصل الأجسام ( يتزاور الأقارب ) الجسم يأخذ حاجته من الطَّعام والشَّراب والحلويَّات الزَّائدة على الحاجة، الجسم يلبس أجمل اللِّباس، والجسم يتنظَّف ويغتسل ويُعطَّر فتفوح منه أطيب الرَّوائح، والرُّوح تبقى مقفرةً كما هي العادة، والقلب يبقى مظلماً كما هي العادة، فهلَّا اهتممنا بقلوبنا بقدر ما نهتمُّ بأجسامنا أيُّها الأحبَّة؟
لقد أفسَدَنا هذا الزَّمان الفاسد المُفسد الَّذي امتلأ بأشكال الأمراض السَّارية الَّتي انتقلت لنا من حيث نشعر ومن حيث لا نشعر، مجتمعنا ممتلئٌ بأمراضٍ نفسيِّةٍ خطيرةٍ فتَّاكةٍ وهي تنتقل بالعدوى ونحن لا نشعر أنَّها تنتقل إلينا، وتنتقل منَّا إلى غيرنا…
مجتمعنا حافلٌ بالكِبْر… ونحن عن الكِبْر غافلون وبحقيقته جاهلون! هو يفتك بنفوسنا ونحن لا نشعر، نفوسنا مملوءةٌ بالعجب ونحن عن هذا غافلون! نفوسنا مريضةٌ بمرض الحسد، بمرض الحقد، بمرض البغضاء… ونحن لا نشعر بذلك! نفوسنا تحبُّ الظُّهور، نفوسنا تحبُّ السِّيادة، نفوسنا تحبُّ التَّسلُّط… أمراضٌ وأمراض… نفوسنا لا تقبل الاعتراف بالخطأ، نفوسنا لا تقبل الاعتراف بفضل الآخرين عليها، نفوسنا لا تقبل بالتَّراجع عن خطأٍ فعلته، نفوسنا لا تقبل بالانكسار لإنسانٍ والتَّذلُّل له… وكلُّ هذه أمراضٌ فتَّاكة…
أيُّها الأحبَّة: عندما نسمع أنَّ مرضاً مثل: ( أنفلونزا الطِّيور ) وصل إلى تركيَّا، ومات بسببه ثلاثة أشخاص أو أربعة… تجدنا مهتمِّين بهذا الموضوع اهتماماً يفوق العقل، ويفوق كلام الأطبَّاء وعقل العاقلين، هذا الَّذي أحجم عن أكل الدَّجاج، وهذا الَّذي صار لا يمشي في الشَّارع الَّذي يُباع فيه الدَّجاج! حتَّى إنَّ باعة الدَّجاج وأصحاب المداجن قد خسروا خسائر فادحةً من وراء ذلك… كلُّ هذا لماذا؟! لأنَّنا حريصون على مصلحة أجسامنا، نخاف أن يقطع هذا الفيروس الَّذي في تركيَّا ( الآن في آخر مراحله ) بضعة آلافٍ من الكيلومترات حتَّى يصل إلى بيتي، ويدخل إلى أنفي، ثمَّ يلوِّث جسمي، ثمَّ يقتلني… أخاف من ذلك! مع أنَّه بعيدٌ جدَّاً عنِّي، وفي الوقت نفسه نفسي مريضةٌ يفيروسات وجراثيم ومكروبات قاتلة وأنا لا أشعر بها!!
أيها الأحبَّة: أنفلونزا الطِّيور مرضٌ مؤذٍ، السَّرطان مرضٌ قاتل، الجلطة القلبيَّة يمكن أن تودِيَ بصاحبها… ولكنَّ كلَّ هذه الأمراض لا تُدخِل نار جهنَّم، من كان مصاباً بالسَّرطان فهذا لا يعني أنْ يدخل نار جهنَّم، ولكنَّ مَنْ كان مصاباً بالكِبْر فإنَّ الكِبْرَ يودي به إلى جهنَّم! الكِبْر أخطر من السَّرطان وأخطر من الإيدز وأخطر من سائر الأمراض السَّارية… وهو ينتقل بالعدوى أيضاً، فالَّذي يصحب أُنَاساً متكبِّرين يتعلَّم الكِبْر منهم، والَّذي يعاشر قوماً مغرورين يتعلَّم الغرور منهم، والَّذي يتربَّى في بيتٍ ربُّه (ربُّ الأسرة فيه) متكبِّرٌ مغرورٌ معجبٌ بنفسه؛ فإنَّه ستنتقل العدوى إليه من أبيه، ستسري العدوى إلى كلِّ الأولاد من حيث يشعر الأب أو لا يشعر، ومن حيث يشعر الأولاد أو لا يشعرون…
فإنْ كنَّا نحذر ونتَّقي الأمراض الجسمانيَّة السَّارية أفليس من باب أولى أنْ نحذر الأمراض النَّفسيَّة؟ لأنَّ المرض النَّفسيَّ له نتائج خطيرةٌ وآثارٌ مدمِّرةٌ أكبر بكثيرٍ من تلك الأمراض الجسمانيَّة، المرض الجسمانيُّ قد يكون نافعاً، عندما أمرض أتألَّم تُكفَّر ذنوبي وسيِّئاتي، ثمَّ إذا متُّ بالمرض أموت شهيداً، وأمَّا المرض النَّفسيُّ فإنَّه لا أشعر به ويتفاقم حتَّى يودِيَ بصاحبه إلى جهنَّم… [ ثلاثٌ… مهلكاتٌ ]… أنظر إلى هذه الثَّلاث ما هِيْ؟ ( الإيدز والسَّرطان وأنفلونزا الطِّيور )؟ لا، هذه لا تُهلك، هذه تمُيت، وفرقٌ بين الموت والهلاك، الهلاك لا يعني الموت أيُّها الأحبَّة، ربُّنا يقول: { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } ، البعض يفسِّر هذه الآية: ( لا تفعل شيئاً يؤذي جسمك، لا تفعل شيئاً يؤدِّي إلى الموت إلى الضَّرر… ) لا، كلُّ هذا لا يُسمَّى تهلكة، وإلِّا فإنَّ الشُّهداء يُسمَّون إذاً هالكين لأنَّهم يُقتَلون تنتهي حياتهم، والَّذي يذهب إلى المعركة ليجاهد في سبيل الله ليقارع أعداء الإسلام إذاً نقول هو يلقي بيده إلى التَّهلكة… لأنَّه يذهب إلى الموت بنفسه، ليست هذه التَّهلكة، التَّهلكة هي نار جهنَّم، { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }: ولا ترتكبوا معاصي تودي بكم إلى النَّار… [ ثلاثٌ مهلكاتٌ ] السَّرطان لا يُهلك، قد يُميت ولكنَّه لا يُهلك، الإيدز يُميت ولكنَّه لا يُهلك… الَّذي يُهلك أمراضٌ نفسيَّةٌ هي المهلكات: [ ثلاثٌ مهلكاتٌ: شحٌّ مطاع، وهوىً متَّبع، وإعجاب المرء بنفسه ]…
تُرى هل فكَّرت يوماً عندما تشعر بأعراض مرضٍ ما أن تذهب إلى الطَّبيب؟ يقول قائل: ومَنْ منَّا لم يفكِّر بذلك؟! ولكنْ بنسبٍ تختلف، واحدٌ يقضي معظم أيَّامه عند الأطبَّاء لأنَّ عنده أمراضاً مستفحلةً مستعصيةً، وواحدٌ يذهب إلى الطَّبيب في السَّنة مرَّةً أو مرَّتين، ولكنْ ما منَّا منْ أحدٍ لم يذهب إلى عيادة الطَّبيب ويعرض عليه حاله، أقول: جميلٌ جدَّاً، أيُّهما أهمُّ وأولى صحَّة الجسم أم صحَّة النَّفس؟ صحَّة النَّفس، هل فكَّرت يوماً واحداً طوال حياتك أنْ تذهب إلى طبيبٍ مختصٍّ بعلاج أمراض النُّفوس وتعرض عليه حالتك ليقول لك إنْ كان عندك مرضٌ فاتكٌ أم ليس عندك؟ وإن رأى عندك مرضاً ليعطيك دواءً لهذا المرض؟ ثمَّ تراجعه بعد مدَّةٍ ليتفقَّد حالتك ويرى إلى أيَّة حالةٍ وصل مرضك؟ هل فعلتم هذا يوماً من الأيَّام؟ لا، لماذا؟ لأنَّنا نرى أنَّنا في قمَّة الكمال! نحن عندنا أمراض؟!! نحن نحتاج إلى علاج؟!! نحن نحتاج إلى أطبَّة؟!! نعم عندي أخطاء يسيرة أخطاء أعرفها أعالجها بنفسي، أمَّا أن تقول عندي عيوب وعندي أمراض! لا، لا أبداً أنا بريءٌ من هذا، أنا بعيدٌ عن هذا كلَّ البعد…
نهتمُّ بمصالح أجسامنا، وأمَّا نفوسنا فإنَّها تَعِجُّ بالأمراض – أنا أقول هذا وأنا أعني ما أقول – حافلةٌ بالأوبئة، ولكنَّنا نغطِّي هذه الأوبئة بغطاءٍ جميلٍ نتجاهل به ما يحدث، كالَّذي يعاني جسمه من أوساخٍ كثيرةٍ وهو لا يحبُّ أنْ يغتسل يكره الماء، يكره الماء كرهاً شديداً؛ لذلك جاء بعطرٍ وصار يعطِّر جسمه ليزيل روائح الأوساخ…كيف تصير الرَّائحة؟ تصير أخبث ممّا كانت… رائحةٌ خبيثةٌ جدَّاً… عطرٌ مع وسخ…! وليغطِّي هذه الأوساخ يأتي بملابس جميلةٍ فيلبسها، تنظر إليه من بعيد فتقول: ما شاء الله! ما هذا اللِّباس الجميل! ولكن إذا اقترب منك وشممت رائحته قلت: أعوذ بالله… من أين تفوح هذه الرَّائحة؟! فينظر يمنةً ويسرةً… يقول: لا أعلم، قد يكون هناك وسخ في الجوار… أقول: الوسخ ليس في الجوار، الوسخ فيك… هكذا نصنع أيُّها الأحبَّة، نحاول الهروب من مشكلاتنا الدَّاخليَّة بتغطيتها بمظهرٍ جميلٍ نظيفٍ بحيث نتجاهل المشكلة… إنسانٌ بيته متَّسخ، قال: الأمر بسيط، قلنا: كيف الأمر بسيط؟ كيف تحلُّ هذه المشكلة؟ عليك أن تنظِّف الأرض، يقول: لا، لا الأمر أيسر من ذلك… آتِ بسجَّادةٍ نظيفةٍ وأمدُّها فيوق الوسخ فينظُف البيت! هكذا نحن نحلُّ مشكلاتنا أيُّها الأحبَّة، نحاول ألَّا نكتشف ما في الدَّاخل، لأنَّ اكتشاف الدَّاخل صعب، وعلاجه أصعب، نحاول أن نغطيَ عليه بصلاح الظَّاهر، بينما العاقل يدعو: ( وأصلح فساد قلوبنا ) لأنَّ الله يحاسب على القلب أكثر ممَّا يحاسب على الجوارح، [ إنَّ الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم؛ ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ]…
الأجسام والصُّور لا قيمة لها، الأعمال مهمَّة والقلوب أهمُّ من الأعمال، سلامة القلب أهمُّ من استقامة العمل وصلاحه، فربَّ طائعٍ يدخل جهنَّم وربَّ عاصٍ يدخل الجنَّة، طائعٌ يدخل جهنَّم إذا كانت نفسه مريضة، إذا كان مرائياً معجباً متكبِّراً… طاعاته كلُّها مردودةٌ عليه، وعاصٍ يدخل الجنَّة إذا كان منكسراً معترفاً بالذَّنب متذلِّلاً لله شاعراً بالتَّقصير… ذنوبه كلُّها يمكن أن تغفر، معصيةٌ تغفر وطاعةٌ تردُّ، العبرة بماذا؟ بالقلب، القلب هو الَّذي يحدِّد هذه المعصية تغفر أم لا تغفر، والقلب هو الَّذي يحدِّد هذه الطَّاعة تقبل أم لا تقبل، { يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * } ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * } ، القلب هو المعوَّل عليه، فهلَّا أهتممنا بقلوبنا أيُّها الأحبَّة، هلَّا سعينا إلى إصلاحها، هلَّا خلَّصناها من الكِبْر الَّذي فيها، من العجب من الغرور… تقول: أنا ليس فيَّ ذلك… أقول: من قال لك هذا؟ أنت أم الطَّبيب؟ تقول: لا، أنا أعرف…!
إنسانٌ يذهب إلى الطَّبيب بسبب آلامٍ شديدةٍ يشعر بها، فجأةً أصابته آلامٌ شديدةٌ مبرِّحةٌ فأخذوه إلى الطَّبيب، فحصه الطَّبيب، قال: مسكين…! قالوا: ما الخبر؟ قال: مصابٌ بالسَّرطان، لِمَ لمْ تأتوني به مِنْ زمن؟ قالوا: يا طبيب ما شعرنا بما به إلَّا اليوم، وهو اليوم قال أنا متألِّم… منذ متى معه هذا السَّرطان؟ قال: هذا السَّرطان معه من ثلاثة أعوام… وهو يسري في جسمه، والأورام تتفاقم وتكبر، وتسيطر على أجزاء كبيرةٍ من الجسم، وهو لا يشعر بذلك، ربَّما يشعر ويتجاهل، ربَّما يشعر ببعض الآلام يقول: لا بأس عرضيَّةٌ تزول سريعاً… قالوا: والآن؟ قال: الآن انتهى أمره! أيَّامٌ معدوداتٌ ويصير في ديار الآخرة… هذا عندما يكون المرض جسمانيَّاً.
عندما يكون المرض قلبيَّاً يحدث الأمر نفسه، تقول: أنا لا أشعر بالمرض، أقول: لا ينبغي أن تقرِّر أنت، ينبغي أن تلجأ إلى أصحاب الاختصاص، وينبغي أن تحاسب نفسك، الحريص على مصلحة جسمه يذهب بشكلٍ دوريٍّ إلى زيارة الطَّبيب، ولو لم يكن يشعر بالآلام… يقول: لعلَّ هناك مرضاً موجوداً فيَّ ويكبر وأنا لا أشعر به… الطَّبيب يفحصني، يعرف في جسمي أكثر ممَّا أعرف أنا.
وهكذا أيُّها الأحبَّة مصلحة النُّفوس ينبغي أن نهتمَّ بها بالقدر نفسه.
نتزاور في العيد، ولكنْ ما أحلى أن نكون مع التَّزاور متحابِّين! ما أحلى أن نكون مع التَّزاور متباذلين! تقول: نحن متحابُّون الحمد لله، أقول: حبُّنا مشوَّه، شوَّهته أمراضٌ نفسيَّةٌ كالأنانيَّة والأثرة، أنت تحبُّ إخوانك… طيِّب إذا زرت أخاك الَّذي تحبُّه وقال لك: يا أخي أنا محتاجٌ إلى مساعدتك، هذا البيت الَّذي لا تحتاجه – مثلا – أو هذا المال الفائض على حاجتك أعطني إيَّاه أقضي به حاجتي، تتردَّد أم لا تتردَّد؟ قد تقول له: فسِّحوا لنا يا أخي، عندنا زيارات كثيرة… السَّلام عليكم… زرنا في العيد القادم… تهرب منه، تحبُّه… حبَّاً مجَّانيَّاً!، حبَّاً ليست له ضرائب، فإذا صار لهذا الحبِّ تبعات ونتائج… تقول: لا، لا من بعيد، من بعيد، حبيبي وصاحبي ولكنْ لا تقترب صوب المال، أنت تحبُّه ولكنْ يا ترى لو أساء إليك إساءة أفتتقبَّل الإساءة مهما كبرت بصدرٍ رحبٍ وبأريحيَّةٍ وحبٍّ… وتقول: ( سامحك الله يا أخي، أنا أحبُّك مهما فعلت معي ومهما قلت لي أبقى أحبُّك )…؟!
وعينُ الرِّضا عنْ كلِّ عيبٍ كليلةٌ * ولكنَّ عينَ السُّخطِ تبدي المساويا
تقول: لا، المحبَّة تنقلب بغضاً، إذاً أنت لا تحبُّه حبَّاً صادقاً.
حبُّنا أفسدته أمراض، أنت تحبُّه ولكن في سرِّك ترى أنَّه أفضل منك أم أنت أفضل منه؟ تقول: أنا لا يوجد في هذه القرية ولا في هذا البلد أحدٌ أفضل منِّي! أقول: إذاً حبُّك فاسد، حبُّك خلَّبيٌّ خادعٌ، لا يكون الحبُّ كاملاً حتَّى يكون خالياً من الأمراض المفسدة، لذلك حبُّنا ينبغي أن يُكمَّل أيُّها الأحبَّة، نفوسنا ينبغي أن تُصلَّح، أن تعالج، تداوى…
في يوم العيد فرصةٌ لبداية العلاج، لا أقول فرصةٌ للعلاج؛ لأنَّ العلاج ينبغي أن يستمرَّ وقتاً طويلاً، ولا يمكن العلاج ولا الإصلاح في يومٍ واحدٍ، المرض الجسمانيُّ يحتاج إلى سنوات فما بالك بالمرض النَّفسانيُّ بالمرض القلبيُّ…
المرض الجسمانيُّ نتيجته في أسوء الأحوال الموت، المرض القلبيُّ نتيجته في أسوء الأحوال الخلود في جهنَّم والعياذ بالله…
أفليس جديراً بنا أن نضع كلَّ ما نستطيع من إمكاناتٍ ومن وقتٍ ومن تفكيرٍ ومن اهتمام في سبيل إصلاح قلوبنا؟ حتَّى نعود كما كان الصَّحابة الكرام، حتَّى نتشبَّه بالأنبياء العظام عليهم السَّلام الَّذين كانوا مثال الصَّفاء، مثال النَّقاء، مثال الإنسان النَّقيِّ السَّليم القلب الَّذي يقبل على ربِّه فيقبله ربُّه، ولا يقبل الله تعالى إلَّا صاحب القلب السَّليم { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ *إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * } .
فاغتنموا أيُّها الأحبَّةُ فرصة العيد سعياً وراء سلامة قلوبكم، عسى الله جلَّ وعلا أن يقبلنا في زمرة عباده الصَّادقين الَّذين أخلصوا في عبوديَّتهم له، وخلَّصوا قلوبهم من الحُجب الَّتي تمنعهم من الوصول إليه… إنَّه خير مسؤولٍ وأكرم مجيب، أقول هذا القول وأستغفر الله.
اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، الله أكبرُ كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله وبحمده بكرةً وأصيلاً.
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاماً لمن جَحَدَ به وكفر، وأشهد أنَّ سيَّدنا محمَّداً عبده ورسوله الشَّفيع المُشَفَّعُ في المحشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ ووَعَت أُذُنٌ لخبر، أُوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، وأحثُّكم وإياي على طاعته، وأحذِّرُكم وَبال عصيانه ومخالفةِ أمره.
من سنن العيد أيُّها الأحبَّة: التَّكبير، يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: [ زيِّنوا أعيادكم بالتَّكبير ] وتكبير التَّشريق: ( اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد ) واجبٌ في المذهب الحنفي بعد كلِّ صلاةٍ مفروضة، أمَّا عند الإمام أبي حنيفة فيشترط للوجوب أن تصلَّى جماعة، هي واجبةٌ على جماعة الرِّجال، وعند الإمام أبي يوسف والإمام محمَّد واجبةٌ على كلِّ من يصلي فريضةً ولو منفرداً ولو رجلاًَ ولو امرأة…
وأمَّا التَّكبير على المآذن من بعد الأذان فليس من السُّنَّة، إنَّما السُّنَّة التَّكبير بعد الصَّلاة، والسُّنَّة التَّكبير المطلق في كلِّ حال، في كلِّ وقت؛ وخاصَّةً عند تغيُّر الحال، إذا كنت نائماً فاستيقظت فكبِّر، وإذا كنت قاعداً فقمت فكبِّر، وإذا كنت قائماً فقعدت فكبِّر، وإذا كنت قاعداً فاستلقيت فكبِّر، وإذا كنت خارج البيت فدخلت بيتك فكبِّر، وإذا ركبت السَّيَّارة فكبِّر، وإذا خرجت من البيت فكبِّر…
تكبير التَّشريق يستمرُّ من فجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من ثالث أيَّام التَّشريق أي رابع أيَّام العيد الثَّالث عشر من ذي الحجَّة [ زيِّنوا أعيادكم بالتَّكبير ].
ومن سنن العيد الأضحيَّة، وهي واجبةٌ أيضاً عند الإمام أبي حنيفة، لقول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: [ من وجد سعةً لأنْ يضحِّيَ فلمْ يضحِّي فلا يقربنَّ مصلَّانا ] فإنْ تمكَّنت أن تذبح أضحيَّتك بيدك فهذا أولى، وإلَّا فاشهد أضحيَّتك؛ فأوَّل قطرة دمٍ تنزل من هذه الأضحيَّة يُكتَب لك عندها أجرها، وأجرها: [ بكلِّ شعرةٍ حسنة، قالوا: يا رسول الله فما لنا في الصُّوف؟ قال: بكلِّ شعرةٍ من الصُّوف حسنة ] وتخيَّر الذَّبيحة الكبيرة الحسنة الخالية من العيوب، حتَّى تدخل فيمن قال الله فيهم: { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } .
فإذا ذبحت فأنت مخيَّرٌ أنْ تفعل باللَّحم ما تشاء، إلَّا البيع أو انتفاعك بمالٍ من جزءٍ من أجزاء الأضحيَّة، فإنْ شئت أن تأكله كلَّه فلا حرج عليك أجزأتك الأضحيَّة، وإِنْ شئت أَنْ تصدَّق به كلِّه فلا بأس في ذلك، ولكن الأكمل أنْ تأكل بعضه وتتصدَّق بأكثره، تصدَّق بما تشاء وكُلْ ما تشاء، ولكنْ الأولى أنْ تأكل شيئاً فلا تتصدَّق به جميعاً، السُّنَّة أنْ تأكل من أضحيَّتك، وبقدر ما تزيد صدقتك يزيد أجرك، ولكنْ هذا الأجر ليس أجر الأضحيَّة هو زائدٌ على أجر الأضحيَّة، الأضحيَّة لها أجرٌ بإراقة الدَّم ثمَّ الصَّدقة إنْ تصدَّقت لك بها أجرٌ زائدٌ، [ تصدَّق النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام بأضحيَّته جميعها، إلَّا، الذِّراع، فقال: يا عائشة ما بقي منها؟ قال: يا رسول الله ذهب كلُّها وبقي الذِّراع، قال: بل بقي كلُّها وذهب الذِّراع ]… ما تصدَّقت به أبقيته، وما أكلته أفنيته، فحاول أنْ تبقي أكبر قدرٍ ممكنٍ من الأضحيَّة لنفسك؛ بأنْ تتصدَّق بأكبر قدرٍ ممكنٍ منها، وحاول أنْ يكون مقدار ما تفنيه بالأكل أقلُّ قدرٍ ممكنٍ.
وأنت حرُّ أنْ توزِّع الأضحيَّة على الفقراء أو على الأغنياء من الأصحاب والأقارب والجيران… ولا يجب عليك الالتزام بحدٍّ معيَّنٍ كما يقولون: ( الثُّلث، والثُّلث، والثُّلث ) تقسيم الأثلاث الثَّلاثة مستحسنٌ من بعض العلماء ولكنْ هو في الأصل ليس مُلزِماً، كما بيَّنَّا أنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام تصدَّق بمعظمها، فهذا ليس مُلزِماً، البعض يظنُّ أنَّ الثُّلث أمرٌ شرعيٌّ فيأت بالميزان ويزن… يريد أن يكون الثُّلث تماماً! يأكله، والثُّلث تماماً يتصدَّق به على الفقراء! والثُّلث تماماً يعطيه للأغنياء من أصحابه وأقاربه! هذا ليس ملزماً، أنت حرُّ التَّصرُّف بها بشرط ألَّا تدخل مالاً، ولو بعت الجلد وأدخلت المال لذهب أجر أضحيَّتك، تصدَّق بالجلد، أعطه فقيراً أعطه أحداً يبيعه ويتصدَّق بثمنه… ولكنْ أنت لا تدخل مالاً إليك، حتَّى ولو أردت أن تتصدَّق بهذا المال…
أيُّها الأحبَّة مجتمعنا مليءٌ بأشكال القطيعة ما بين الأقارب والأرحام، فاحذروا أنْ تستمرَّ قطيعةٌ سابقةٌ أثناء أيَّام العيد، واذكروا قول النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام: [ لا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الَّذي يبدأ صاحبه بالسَّلام ] إنْ كنت مُسِيْئَاً فبادر بسرعة الآن دون تأخُّر إلى من أسأت إليه واعتذر، وإن كنت مُسَاءً إليك فبادر الآن في هذه اللَّحظة إلى من أساء إليك واعتذر… نعم أنت ينبغي أنت تبادر، حتَّى لو كان هو الَّذي أساء وأنت الَّذي أسيء إليك؛ فبادر أنت بالاعتذار [ وخيرهما الَّذي يبدأ صاحبه بالسَّلام ].
عندك ذنوبٌ أمْ لا يوجد؟ إذا كان هنا في المسجد وليٌّ من أولياء الله ليس عنده ذنوب! فليرفع يده، قال: وأولياء الله ليس عندهم ذنوب؟! بلى حتَّى أولياء الله عندهم ذنوب، ولكنْ أقول إنْ كان هنا أحدٌ يرى أنَّه ليس عنده ذنوبٌ فليرفع يده! يوجد؟ لا يوجد، ما مِنَّا من أحدٍ إلَّا وهو كثير الذُّنوب… ماذا تريد من الله أن يفعل بذنوبك؟ تريد أن يُحاسبك عليها؟ ذنباً ذنباً، ويعطيك ما تستحقُّ… واحد يقول: ( يا ربّ خذْ ما لك، وأعطيني ما لي، عاملني بما أستحقُّ )…! أقول: يا هذا إذا عاملك بما تستحقُّ عذَّبك بجهنَّم… تريد من الله أن يغفر لك ذنبك؟ قال: نعم أريد أنْ يغفر لي ذنبي، إذاً كُنْ مع النَّاس هكذا يكُنْ الله معك هكذا، عامل النَّاس بالصَّفح والعفو والتَّسامح حتَّى يعاملك الله بذلك، أمَّا إذا قلت: لا أسامح… فالله سيقول لك يوم القيامة: لا أسامح، إذا قلت أساء إليَّ لا أغفر له؛ فالله يقول لك: لا أغفر لك أنا أيضاً: [ الرَّاحمون يرحمهم الرَّحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السَّماء ].
بادر إلى الصُّلح، بغضِّ النَّظر عن مَنْ المبتدئ؟ مَنْ المسيء؟؛ حتَّى يعاملك الله برضوانه وفضله، ولا يعاملك بعقوبته وعدله، نسأل الله أنْ يجعلنا من جملة المتحابِّين فيه، إنَّه خير مسؤولٍ وأكرم مجيب.
اللَّهمَّ اجعل يومنا هذا يوم بركةٍ وخيرٍ، اللَّهمَّ اجعل يومنا هذا يوم قربٍ منك وطاعةٍ، اللَّهمَّ إنَّا نسألك من خير هذا اليوم وخير ما فيه وخير ما بعده، نسألك فتحه ونصره ونوره وبركته وهداه، ونعوذ بك من شرِّ ما في هذا اليوم وشرِّ ما بعده، اللَّهمَّ أرنا الحقَّ حقَّاً وارزقنا اتِّباعه وحبِّبنا فيه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وكرِّهنا فيه، اللَّهمَّ ردَّنا إليك ردَّاً جميلاً، اللَّهمَّ انصرْ الإسلام وأعزَّ المسلمين، وأهْلِكِ الكفرة والملحدين أعداءك أعداء الدِّين، اللَّهمَّ انصر إخواننا المستضعفين في كلِّ مكان، اللَّهمَّ آمنهم، اللَّهمَّ تولَّهم، اللَّهمَّ اكفهم وارزقهم، اللَّهمَّ بدِّل خوفنا أمنا، وبدِّل ضعفنا قوَّة، وبدِّل ذلَّنا عزَّاً، اللَّهمَّ بدِّل هزيمتنا نصراً مؤزَّراً برحمتك يا أرحم الرَّاحمين، اللَّهمَّ إنَّك عفوٌّ تحبُّ العفو فاعف عنَّا، اللَّهمَّ ألِّف بين قلوب المسلمين، اللَّهمَّ كما جمعتنا على ما يرضيك حُل بيننا وبين معاصيك، واجعلنا من جملة المتحابِّين فيك، اللَّهمَّ آتِ نفوسنا تقواها زكِّها أنت خير من زكَّاها أنت ولُّها ومولاها، واغفر للمسلمين والمسلمات، المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنَّك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدَّعوات، والحمد لله ربِّ العالمين، وكلَّ عامٍ وأنتم بخير.

الملفات الصوتية
الملف الأول
أرسل هذه الصفحة إلى صديق
اسمك
بريدك الإلكتروني
بريد صديقك
رسالة مختصرة


المواضيع المختارة
مختارات

[حسن الظن بالله]

حسن الظن بالله يعني أن يعمل العبد عملاً صالحاً ثم يرجو قبوله من الله تعالى ، وأن يتوب العبد إلى الله تعالى من ذنب عمله ثم يرجو قبول الله تعالى لتوبته ، حسن الظن بالله هو ذاك الظن الجميل الذي يأتي بعد الفعل الجميل.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام : {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى.}
قال سبحانه في الحديث القدسي :{ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني } أنا عند ظن عبدي بي فإذا ظننت أنه يرحمك وأخذت بأسباب الرحمة فسوف يرحمك ، وأما إن يئست من رحمته وقصرت في طلب أسبابها فإنه لن يعطيك هذه الرحمة لأنك حكمت على نفسك والله تعالى سيحكم عليك بما حكمت أنت على نفسك .